بسبب الإجراءات غير العادلة للأمم المتحدة والولايات المتحدة، بات العالم يعيش في عصر الأزمات، وأصبح النظام الاقتصادي والسياسي في كافة الدول أكثر تعقيداً من أي وقت مضى. ومع انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، انتهت الحرب الباردة والنظام ثنائي القطب ليدخل العالم بعدها في حقبة فوضوية انتقالية. ومنذ ذلك الحين بدأت الهيمنة الأمريكية تتآكل وظهرت تحديات جديدة مثل الإرهاب الدولي وارتفاع حدة العنف من قبل الكيانات اللا رسمية.
كما راح الصعود المستمر للقوى العالمية الأخرى مثل الصين وروسيا يقوّض التفوق الأمريكي، في حين فقدت أوروبا موقعها الثقيل في ميزان القوى العالمي الجديد، وتبلور التنافس الكبير حالياً بشكل أساسي بين الولايات المتحدة وروسيا والصين.
أجراس الخطر تقرع في آذان الغرب
يشهد النظام السياسي والاقتصادي العالمي اليوم أزمةً عميقةً بسبب حقيقة العلاقات الدولية الحالية التي باتت تتشكل في الغالب من خلال سياسات القوة بدل أن تستند إلى القواعد أو الأعراف أو المبادئ. فالولايات المتحدة لم تعد تحترم القواعد والمعايير التي وضعتها المنظمات الدولية. ومن الواضح أن النظام الدولي الحالي صار يتسم بأربعة عوامل مختلفة ساهم كل منها في الأزمة التي يمر بها. وسأناقش في هذا المقال بإيجاز الأزمة العالمية بعواملها الأربعة ابتداءً من الأكبر إلى الأصغر.
أولاً، لنتحدث عن العامل الأكبر والأهم الذي يؤثر على النظام العالمي الحالي وهو الحضارة الغربية التي تستمد هويتها من مصدرين رئيسيين هما اليهودية والمسيحية، والعالم اليوناني الروماني. وفي حين يعكس المصدر الأول البعد الديني الذي أعيد تعريفه وتفسيره مع الإصلاح، يمثل الأخير البعد العلماني الذي أعيد تعريفه تفسيره مع عصر النهضة. بعبارة أخرى، استمر الغرب بالسيطرة على النظام العالمي طيلة القرون الخمسة الماضية حتى نهاية القرن العشرين. وظلت الدول الغربية الرئيسية طوال فترة هيمنتها، تتبع سياسات ليبرالية في علاقاتها مع الغرب، وسياسات واقعية في علاقاتها مع دول العالم الأخرى من غير الغرب.
ومن المفارقات أن الغرب فقد هيمنته بعد فترة وجيزة من إنشاء مؤسستين دوليتين رمزيتين، هما منظمة التجارة العالمية ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، اللتان تمثلان اقتصاد السوق والديمقراطية الليبرالية. ومع ذلك، بدأت الدول الغربية التي واجهت منافسة من الكتلة الشيوعية الاستبدادية في الابتعاد بسرعة عن هاتين القيمتين الغربيتين التقليديتين.
الجانب الثاني الذي يشكل النظام العالمي هو مفهوم الدولة القومية. إذ يشهد العالم منذ معاهدات السلام والثورة الفرنسية، نظام الدولة القومية، الذي يقوم على مبدأين رئيسيين: الإقليمية والمواطنة حيث ظلت الدول القومية تتمتع حتى وقت قريب بسيادة مطلقة على قطعة معينة من الأرض ومجموعة من الناس. لكن قوة الدولة القومية تراجعت بشكل ملحوظ بسبب بعض التطورات الأخيرة.
ومن ناحية أخرى، بدأت الدول القومية تفقد قوتها لصالح كيانات سياسية فوق وطنية أكبر مثل الاتحاد الأوروبي أو لصالح كيانات سياسية أضيق مثل المناطق والمحافظات دون الوطنية. ولم يعد مفهوم المواطنة مطلقاً بالنسبة لمعظم الأوروبيين، بل صار متعدد الطبقات على المستوى المحلي والوطني والأوروبي. وقامت إسرائيل والهند مؤخراً بدقّ المسمار الأخير في نعش الدولة القومية عندما أعلنت الدولة العبرية بحسب "قانون الأمة" أن إسرائيل ليست دولة مواطنيها، بل هي دولة لكل اليهود أينما كانوا. كما أصدرت الهند قراراً مشابهاً يستبعد بعض فئات السكان من الجنسية.
ولكن ماذا عن الأمم المتحدة؟
وهل تعمل هذه المنظمة الدولية بشكل عادل؟
في الواقع تمثل الأمم المتحدة الجانب الثالث من النظام الدولي الحالي، ويمكن اعتبارها أشبه بحكومة عالمية بمؤسساتها العديدة المتخصصة مثل منظمة التجارة العالمية ومنظمة الصحة العالمية. وكل من هذه المنظمات تركز على قضية عالمية معينة. ولذلك من المفترض أن تلعب الأمم المتحدة دوراً حاسماً في العديد من الأزمات الدولية.
ومع ذلك، تعرضت الأمم المتحدة مؤخراً لانتقادات بسبب تقاعسها عن العمل خلال الأزمات الدولية. وبدت عاجزةً عن إنتاج الحلول للمشاكل الدولية أو منع ظهور قضايا دولية. ولم تتمكن الأمم المتحدة من لعب دور ذي مغزى في فلسطين ورواندا والبوسنة وأفغانستان والصومال ولبنان وسوريا والعراق.
والحقيقة أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وهو هيئة صنع القرار الرئيسية، والأعضاء الخمسة الدائمون في الهيئة يوقفون نظام الأمم المتحدة، ويخدمون فقط المصالح الوطنية للدول الخمس الدائمة العضوية. والأمر الثاني هو أن هؤلاء لا يمكنهم اتخاذ أي إجراء ضد جهات فاعلة معينة مثل إسرائيل. ولا تستطيع الأمم المتحدة ردع العدوان الإسرائيلي والتوسع وانتهاكات حقوق الإنسان. علاوة على ذلك، لا تستطيع الأمم المتحدة حل المشاكل الدولية الناتجة عن الفقر والمجاعات والكوارث والدول المعتدية.
أما الولايات المتحدة، الأب المؤسس للأمم المتحدة، فهي لا تحترم القرارات التي تتخذها المنظمة، وقد انسحبت مؤخراً من بعض مؤسساتها المتخصصة مثل اليونسكو ومنظمة الصحة العالمية. كذلك تفتقر الأمم المتحدة لوجود فلسفة أو خطاب سياسي وراء إطار عملها.
لذلك، بدأ إصلاح ومراجعة نظام الأمم المتحدة يخضع للتدقيق في الآونة الأخيرة. كما أطلق العديد من الدول والمراقبين الدعوة إلى تغيير عدد وهيكل مجلس الأمن التابع لها. وخصوصاً الحاجة إلى زيادة عدد الأعضاء الدائمين. ونظراً لأن الأمم المتحدة لا تمثل الغرب فقط، فيجب أن تكون هذه المنظمة الدولية في عصرنا الراهن، الأكثر شمولاً في العالم. علاوة على ذلك، يجب تقليص سلطة مجلس الأمن التابع لها وزيادة سلطة الجمعية العامة للأمم المتحدة.
أما البعد الرابع والأخير للنظام الدولي الحالي فهو هيمنة الولايات المتحدة التي تمتعت بالقوة العسكرية المطلقة والقوة الاقتصادية وموافقة الدول الأخرى طوال فترة الحرب الباردة، وتدخلت في معظم القضايا الإقليمية والعالمية في جميع أنحاء العالم. لكنها في الوقت الحاضر، تواجه مشاكل في الحفاظ على هيمنتها العالمية.
فعلى سبيل المثال، غزت الولايات المتحدة العراق لكنها لم تستطع إعادة بنائه. وتدخلت في الأزمة السورية لكنها فشلت في أن تكون فعالة على الأرض. وفي الآونة الأخيرة، انسحبت من أفغانستان بعد 20 عاماً من الغزو تاركة البلاد لطالبان، المنظمة التي أعلنتها الأمم المتحدة إرهابية.
وبالرغم من أنها القوة المهيمنة العالمية الوحيدة، إلا أن الولايات المتحدة لا تقوم بتوفير المنافع العامة العالمية. بعبارة أخرى، تدعي الولايات المتحدة بشكل غير مباشر أنها لن توفر الأمن الدولي والتنمية الاقتصادية بعد الآن، الأمر الذي اعتبر تغييراً حقيقياً واضحاً بعد بدء فترة الهيمنة. ومع ذلك، لا توجد قوة بديلة حريصة على استبدال الولايات المتحدة وتوفير المنافع العامة العالمية. وببساطة تخلت الولايات المتحدة المهيمنة عن الوضع الراهن، لأنه لم يعد يخدم مصالحها الوطنية بعد أن كانت تتبع سياسة خارجية تعديلية ولا تمانع في انتهاك المبادئ الرئيسية للأمم المتحدة. على سبيل المثال، اعترفت الحكومة الأمريكية بـ "القدس الموحدة" كعاصمة لإسرائيل وضم مرتفعات الجولان من جانب دولة إسرائيل، كلتا الخطوتين تتعارضان مع قواعد ومعايير القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، لتؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنها من الدول المناهضة للأمم المتحدة.
فمن ناحية، اتبع حلفاء الولايات المتحدة سياسة توازن ناعمة تجاهها في السابق لكننا نشهد اليوم حالة متزايدة من عدم الثقة بينها وبين حلفائها بسبب ميلها إلى اتباع سياسات أحادية الجانب. ومن ناحية أخرى، بدأت القوى الصاعدة مثل الصين وروسيا والهند في الحصول على حصة أكبر من الكعكة وراحت هذه الدول تضيق المساحة على الولايات المتحدة.
لقد أوقعت التطورات في تلك المجالات الأربعة النظام الدولي في أزمة عميقة، على غرار الأزمة التي وقعت في الثلاثينيات عندما تجاوزت الولايات المتحدة البريطانيين كأكبر قوة عالمية، وفشلت واشنطن في الاضطلاع بدور لندن في توفير السلع العامة العالمية. واليوم، لا تبدي الصين استعدادها لتحمل أي مسؤولية في توفير المنافع العامة العالمية. وتحتاج كل من الدول المهيمنة والمتنافسة من أجل تجنب المسار الحالي للأحداث، إلى عكس العمليات والتفاهمات الحالية.
إن الانهيار المنهجي في ثلاثينيات القرن الماضي أدى إلى تفكك النظام العالمي من خلال الكساد الكبير والإبادة الجماعية التي وقعت في قلب أوروبا والحرب العالمية التي فقد فيها أكثر من 50 مليون شخص حياتهم. وبالمثل، فإن الارتفاع الأخير في النزعة القومية المتطرفة وكراهية الأجانب والعنصرية وكراهية الإسلام والتسلط الاقتصادي قد يؤدي بالعالم إلى فوضى عالمية وعدم استقرار سياسي وحرمان اقتصادي. ومن أجل منع حدوث ذلك، لا بد من إصلاح نظام الأمم المتحدة بطريقة أكثر فعالية وشمولية وعدالة.