لا شك أن انسحاب الولايات المتحدة من سوريا يعتبر خطوة هامة ومؤثرة بشكل مباشرعلى مستقبل الأزمة السورية. إلا أن السبب الرئيسي لهذا القرار يعود بالدرجة الأولى إلى الموقف الثابت لتركيا وللرئيس رجب طيب أردوغان.
لقد ظلت تركيا والولايات المتحدة، اللتان تجمعهما عضوية حلف الناتو منذ عام 1952، تنهجان نهجا سياسيا متناقضا في الشرق الأوسط طوال السنوات القليلة الماضية. وبالطبع فقد اهتزت دعائم التحالف بينهما غير مرة بسبب التطورات في الشرق الأوسط، ومع اختلاف وجهات نظر وتوقعات البلدين فيما يتعلق بالمنطقة أو بصراحة أكثر، لتمسك كلاهما بمواقفهما السياسية؛ ظهر تناقض عميق بينهما.
وكانت نقطة التحول قد بدأت في المواقف التركية والأمريكية المختلفة عند وقوع الانقلاب العسكري في مصر في يوليو / تموز 2013. ففي الوقت الذي أعطت فيه الولايات المتحدة موافقتها للإطاحة بالحكومة المنتخبة لمحمد مرسي بل وأبدت تأييدها، وقفت تركيا ضد الانقلاب ودعمت إعادة الحكومة المنتخبة ديمقراطيا في مصر.
وقد حاولت بعض دول المنطقة مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، تحويل الربيع العربي إلى "شتاء" عربي عن طريق زعزعة استقرار جميع الأنظمة الجديدة وعدم السماح لها بالنجاح. وذلك بدعم من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى.
في وقت لاحق، توقفت واشنطن عن دعم قوى المعارضة في سوريا وبقيت صامتة ضد جميع الفظائع التي يرتكبها نظام بشار الأسد. علاوة على ذلك، أدى تردد واشنطن إلى تدخل روسيا في الأزمة السورية وهيمنتها في المنطقة. على العكس، استمرت تركيا في دعم المعارضة السورية المعتدلة وتقديم المساعدات الإنسانية للشعب السوري في كل من تركيا والداخل السوري الذي مزقته الحرب.
وخلال إدارة دونالد ترامب، حاولت الولايات المتحدة دعم القوى الإقليمية الرجعية مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والتنظيمات المحلية الارهابية مثل ميليشيا ي ب ك التابعة لـ بي كا كا وتنظيم قسد. وهكذا، بدأت الولايات المتحدة في المساهمة في زعزعة الاستقرار الإقليمي بدلاً من التسوية وإعادة الاندماج.
وبتشجيع من إدارة ترامب، فرضت الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية عقوبات جائرة ونفذت حصارًا ظالما على قطر. في الوقت الذي منعت فيه تركيا وإيران، هذه الدول الرجعية والتحريضية من تغيير التوازن الإقليمي ودافعتا معا عن قطر ضد الرياض وأبو ظبي.
ومع كل ذلك، كان الدعم الأمريكي المباشر لتنظيم ي ب ك الارهابي قضية ملحة بالنسبة لتركيا، بالمقارنة مع الأزمات الإقليمية الأخرى التي تلعب دورًا ثانويًا نسبيًا للمصالح القومية التركية.
فإدارة ترامب قامت بتسليح وتدريب مقاتلي تنظيم ي ب ك، الأمر الذي اعتبر تهديدًا مباشرًا للأمن القومي التركي. وقد حرض التعاون بين الولايات المتحدة و ي ب ك رد فعل عنيف من أنقرة، مما أدى إلى ارتفاع نسبة العداء لأمريكا إلى ما يقرب من 80-90 في المئة في تركيا.
من اللافت أن هذا العداء لم يكن بين أوساط الأتراك المقربين من حكومة حزب العدالة والتنمية فقط، بل بين صفوف المعارضة أيضا، حيث ألقت الأخيرة باللوم الشديد على الحكومة الأمريكية لدعمها ميليشيا ي ب ك. فالقضية ليست صداماً بين تركيا والولايات المتحدة، كقوة وسطى وقوة عظمى، بل تتعلق بالدرجة الأولى بأهمية القضية وحساسيتها لكل دولة على حدة. فموقف تركيا كان ثابتاً ولم يكن بوسعها تقديم أي تنازل، في حين أبدت الولايات المتحدة مرونة أكبر بشأن الأزمة، بل وقبلت التفاوض بشأن المسألة مع تركيا.
إلى جانب التطورات في الشرق الأوسط، أثيرت قضايا حيوية ثنائية أخرى بين البلدين، كالموقف الأمريكي من محاولة الانقلاب في تركيا في يوليو 2016، واستضافة أعضاء جماعة غولن الارهابية في الولايات المتحدة، ورفض واشنطن بيع أنظمة الدفاع الجوي إلى تركيا، ومحاولة الولايات المتحدة معاقبة بعض الجهات الاقتصادية التركية التي تزعم أنها انتهكت العقوبات الأمريكية ضد إيران وغيرها من المشاكل. ومع ذلك، يمكن القول إن حل قضية ي ب ك/بي كا كا أصبح الشرط الأساسي لتطبيع العلاقات الثنائية بين البلدين.
لم يعد سراً القول إن السياسة الداخلية الأمريكية تلعب دوراً هاماً في العلاقات التركية الأمريكية، فبالرغم من العداء النسبي الذي تكنه بعض الجهات الفاعلة والأفراد لتركيا، ممن يرى أن الولايات المتحدة لن تحتاج إلى تركيا بعد الآن، يرى المؤيدون الموالون لتركيا أنها لا تزال مهمة جدًا للمصالح الأمريكية لذلك لا يريدون أن يتم عزلها لفترة طويلة باعتبارها الحليف الأكثر تأثيرا في المنطقة.
و هم يراهنون أن تؤدي خسارة أنقرة كحليف إلى تغيير ميزان القوى بين حلف الناتو وروسيا في كل من منطقة البحر الأسود وشرق البحر المتوسط.
ومؤخرا اتخذت إدارة ترامب العديد من الخطوات الهامة مثل منح تركيا تنازلا فيما يتعلق بالعقوبات الإيرانية، والموافقة على بيع صواريخ باتريوت إلى تركيا، والانسحاب من سوريا، وهي خطوات إيجابية نحو إعادة العلاقات التركية الأمريكية إلى مسارها الطبيعي.
وبالنظر إلى تذبذبات القرارات الأمريكية صعودا وهبوطا، إلى جانب العديد من وعودها المنهارة، فإن استمرار إدارة ترمب بمثل خطواتها الأخيرة مهم وإيجابي للغاية.