في 31 مايو 2010، أبحرت 3 سفن تحمل نشطاء في مجال حقوق الإنسان من تركيا وجميع أنحاء العالم، بهدف توصيل الإمدادات الإنسانية للفلسطينيين في قطاع غزة الذين كانوا وما يزالون يخضعون لحصار إسرائيلي خانق في أكبر سجن مفتوح في العالم. وهدفت هذه السفن لكسر الحصار الإسرائيلي "بشكل رمزي" قبل أن يحاصرها جيش الدفاع الإسرائيلي في المياه الدولية.
وبالرغم من أن العالم كله كان يشاهد بثاً مباشراً لما يحدث على التلفزيون، إلا أن البحرية الإسرائيلية اختطفت السفن على مرأى ومسمع الجميع، مما أسفر عن مقتل 9 من نشطاء حقوق الإنسان وإصابة آخر بجروح خطيرة أدت في نهاية المطاف إلى وفاته.
والأمر الأكثر إثارة للصدمة كان ردود الفعل غير المنطقية وغضب إسرائيل من الانتقادات الدولية، بالرغم من أنها كانت لينةً وهشةً جدا، بالنظر إلى العنف وإطلاق الرصاص الحي ضد النشطاء السلميين.
وبصرف النظر عن التشكيك في الشرعية والأخلاق، راح العديد من الإسرائيليين يصورون الهجوم العسكري الدموي ضد المدنيين على أنه عمل مشروع للدفاع عن النفس.
بينما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن "جنودنا أعدموا دون محاكمة"، ووصفت بعض الصحف الإسرائيلية مثل "يديعوت أحرونوت" الحادث بأنه "كمين لقوات الكوماندوز الإسرائيلية"، كما صورت وسائل الإعلام الرئيسية في إسرائيل جنود الجيش الإسرائيلي الذين قتلوا 10 مدنيين وجرحوا العديد منهم، على أنهم "ضحايا التنمر" من قبل النشطاء على متن السفينة الذين كانوا عزّلاً.
لقد كان ما فعلته إسرائيل بالضبط هو إلقاء اللوم على الضحية، كمغتصب يتهم من اعتدى عليه بأنه المجرم.
كذلك فإن ما حدث في عملية الجيش الإسرائيلي عام 2014 التي تحولت إلى عملية برية في قطاع غزة وتحولت على الفور إلى مذبحة، لم يكن مختلفاً.
وتشهد بذلك مواقع الانترنت التي امتلأت بصور جثث الأطفال الصغار التي وضعت في ثلاجات الآيس كريم بسبب امتلاء ثلاجات المشارح في غزة بالجثث.
كما انتشرت الجثث في الشوارع وتُركت المرافق الطبية في حالة خراب بعد قصف حملة العقاب الجماعي الإسرائيلية.
في هذه الأثناء، انشغلت وسائل الإعلام الإسرائيلية بالدفاع عن الهجوم الوحشي وتصويره عالمياً ومحلياً على أنه دفاع عن النفس مرة أخرى، وأن العملية برمتها عبارة عن حرب بين أنداد متكافئين بالقوة والعتاد.
وكنتيجة لذلك الهجوم، قُتل حوالي 70 إسرائيلياً بينهم 5 مدنيين، بينما لقي 2.250 فلسطينياً حتفهم.
وهنا أذكر أطروحة الدكتوراه للباحث الفلسطيني "عماد موسى" الذي درس في جامعة "بورنماوث" في المملكة المتحدة وتحمل عنوان "دور الضحية كقوة دافعة في تعقيد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني" وأقارنها بمقابلة على القناة الاسرائيلية الرابعة بعنوان "أمهات إسرائيل وفلسطين"، ظهرت فيها أم فلسطينية في غزة ترتدي سترة واقية من الرصاص وخوذة تحمل علامة "صحافة" أمام مشهد شديد السواد في غزة، في تناقض صارخ مع مقابلة مع أم إسرائيلية في ملابسها الصيفية الرقيقة بدون أي ملابس واقية تتحدث في شارع نابض بالحياة في القدس.
وبالطبع، باعتبار كلاهما من الأمهات، كانت كلاهما قلقتين على أطفالهما. لكن الأمر المُخزي هو أن الأم الإسرائيلية زعمت أن 80% من القتلى هم من مقاتلي حماس.
وعندما سئلت: "هل ترين أطفالاً يموتون في غزة... ويدفنون؟" أجابت بلا خجل: "بعض تلك الصور مروعة، والسؤال الأهم هو كيف يمكننا في الواقع مواجهة ذلك في وسائل الإعلام"! كانت تفكر فقط في قمع تلك الصور لإقناع العالم أن اليهود الإسرائيليين يعانون أكثر من سكان غزة.
كذلك نشرت "أييلت شاكيد" عضوة الكنيست على صفحتها على الفيسبوك، أن الأمهات الفلسطينيات يجب أن يتبعن أبناءهن حتى الموت وإلا سيتم تربية المزيد من "الثعابين الصغيرة".
وكان الإسرائيليون يتجمعون على قمم التلال في بلدة "سديروت" الحدودية يراقبون القصف ويهتفون وهم يحملون الفشار والمشروبات في أيديهم، ويلتقطون صور "سلفي" بينما يقوم الجيش بإلقاء قنابل على غزة وراءهم، ويقتل الأمهات والأطفال.
وقد كتب كتاب الصحف الاسرائيلية بغطرسة لا متناهية الكثير من مقالات الرأي التي تزعم أنه لا يوجد ما يسمى بالمدنيين الأبرياء في غزة، بهدف تبرير هذه الأنواع من الأعمال المشينة.
وهاهي إراقة الدماء تتكرر اليوم!
بدأ التوتر المتصاعد مع بداية شهر رمضان المبارك في منتصف أبريل/نيسان من خلال الحواجز التي أقامتها الشرطة الإسرائيلية عند باب العامود في القدس الشرقية لمنع الفلسطينيين من دخول البلدة القديمة والصلاة في المسجد الأقصى ثالث أقدس مسجد في الإسلام، وأحس الجميع أننا أمام مشاهد متكررة من الفيلم ذاته.
وكان ما فعلته إسرائيل معدّاً مع سبق الإصرار، ولم يكن من الصعب رؤية ما سيحدث بعد ذلك حيث كان الإسرائيليون يستعدون للاحتفال بالسيطرة الإسرائيلية على المدينة القديمة نتيجة حرب "النكبة" عام 1967.
وأثناء تجاوز الشرطة الإسرائيلية "الخط الأحمر" المقدس من مداهمة مجمع الأقصى لتمهيد الطريق لما يسمى "مسيرة علم القدس"، جاء تحذير من حماس في غزة. وبعد ذلك اندلعت المواجهات وانطلق الخراب والقتل.
ولم تنجح محاولات المعتذرين الإسرائيليين لاحتواء الضرر الذي لحق بصورة "الضحايا اليهود" بواسطة مقطع فيديو للصهاينة المتعصبين وهم يهتفون ويغنون هذه المرة، لأن المقطع انتشر على الإنترنت انتشاراً فيروسياً.
وكان سبب الرقصة الصهيونية الفرحة اندلاع حريق داخل المسجد الأقصى. لكنه لحسن الحظ، لم يسبب أي ضرر للموقع المقدس.
وقبل إطفاء الحريق، قال "دانيال سيدمان" مدير منظمة "القدس الأرضية" الصهيونية، إن النار تمثل "نهاية العالم" و"ألسنة اللهب تتصاعد عالياً" لتحرق المجمع، المعروف باسم جبل الهيكل عند اليهود. بينما نشر العديد من الصحفيين الصهاينة ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي حفلة رقص المتطرفين اليمينيين الذين اعتقدوا أن الحريق سيدمر المسجد.
وما كانوا يغنونه كان أغنية كاهانية انتقامية بكلمات من قصة شمشون التوراتية: "يا إلهي، لأنتقم بعينيّ الاثنتين من الفلسطينيين في الحال".
وكان الحاخام "مئير كاهانا" المتطرف الخبيث، دعا إلى التطهير العرقي للفلسطينيين أثناء خدمته في الكنيست قبل اغتياله في عام 1990.
وبالرغم من أن حزب "كاخ" الذي أسسه "كاهانا" تم حظره عام 1994 بعد أن قتل أحد أعضائه "باروخ غولدشتاين"، 29 مسلماً كانوا يصلون في الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل بالضفة الغربية، إلا أن المتطرف "إيتمار بن غفير" الرئيس السابق لحركة شبابية كاهانية والرئيس الحالي لحزب "القوة اليهودية" تم انتخابه كعضو في الكنيست الشهر الماضي.
وفي زيارة استفزازية له إلى حي "الشيخ جراح" في القدس الشرقية الأسبوع الماضي قبل استعراض يوم العلم، دعا "بن غفير" إلى تدمير المسجد الأقصى، وهو مدرج بالفعل في الخطة طويلة المدى لإسرائيل، ثم ذهب إلى الموقع المقدس.
وتوقف الصهاينة الذين يسيرون عادة في الشوارع الضيقة للأحياء الفلسطينية في البلدة القديمة هذه المرة لأنهم كانوا مشغولين بالاحتفال بنيران المسجد الأقصى وغناء أغنية عن الانتقام الجماعي.
ولا تزال أعداد القتلى الفلسطينيين تتزايد في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ومع أننا مدركون لحقيقة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي قال مؤخراً إن حرب غزة "عادلة وأخلاقية"، مضيفاً أن إسرائيل لن تتسامح مع "المذابح" في مدنها، إنما يفعل ذلك ويحتاجه لأنه يخسر معركته أمام الكنيست.
لكن معظم الإسرائيليين، بصرف النظر عن المتطرفين وأولئك الذين لديهم أجندات سياسية، يشعرون وكأنهم يخوضون معركة وجودية، مما يمنعهم من رؤية الفرق الواضح بين الحقائق والتصورات.
وليست الأسباب الجيوسياسية هي التي تجعل الإسرائيليين يعتبرون أنفسهم ضحايا. إنما هي مشكلة نفسية تمنع عقليتهم وتعاطفهم من إدراك الحقيقة، وتفصلهم عن الواقع.
وختاماً، نحترم ونتفهم تماماً أن يكون لدى اليهود ذاكرة جماعية عن الهولوكوست، لكن أولئك الذين فعلوا ذلك كانوا في أوروبا ولم يكونوا فلسطينيين.