في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني، أبرمت الدول العشر الأعضاء في رابطة جنوب شرق آسيا "آسيان"، وخمس دول من آسيا والمحيط الهادئ هي الصين واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا، والتي تشكل 30% من سكان العالم ومن الناتج المحلي الإجمالي، اتفاقية تجارية كبيرة أطلق عليها اسم "الشراكة الإقليمية الاقتصادية الشاملة".
ولا تعد الاتفاقية الجديدة شاملةً مثل تلك التي أطلق عليها اسم "الشراكة عبر المحيط الهادئ" المقترحة سابقاً التي لم يتم التصديق عليها، والتي انسحب منها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عام 2017. لكن المحللين الاقتصاديين يرون في الحجم الهائل للإتفاقية الجديدة سبباً يجعلها أكثر أهمية مما سواها.
قد يبدو للوهلة الأولى أن الشراكة الجديدة هي امتداد لنفوذ الصين في المنطقة، لكن هذه "الشراكة الإقليمية الاقتصادية" متعددة الأطراف وتم توقيعها بعد ثماني سنوات من المفاوضات، أُبرمت بين دول ذات قيم وأنظمة سياسية واقتصادية متنوعة، تمتد من حدود كازاخستان إلى جنوب المحيط الهادئ.
مع ذلك، لا يزال من الممكن اعتبارها بديلاً مدعوماً من الصين لاتفاقية "الشراكة عبر المحيط الهادئ" التي شملت العديد من البلدان الآسيوية ولكنها استبعدت الصين.
ونظراً لأن الصين تلعب دوراً مركزياً في هذه الاتفاقية بالإضافة إلى كونها أول اتفاقية تجارية إقليمية متعددة الأطراف توقعها بكين، فمن المؤكد أن الآثار الاستراتيجية والجيوسياسية المتوقعة ستكون طويلة الأجل. ويجب التسليم بأن الاتفاقيات التجارية لا تتعلق عادةً بالتجارة فحسب بل إنها تأتي دائماً بنتائج سياسية أوسع.
ولهذا السبب تحديداً يمكن أن تعرقل المشاعر المعادية للصين، التصديق على الاتفاقية الجديدة في بعض البرلمانات الوطنية للدول الأعضاء فيها. فهل يمكن للعلاقات الدبلوماسية الشائكة بين الصين واليابان أو بين الصين وأستراليا أن تجعل الأمر أكثر صعوبة؟ سننظر في ذلك.
يمكن للمعسكر الغربي الضغط على أستراليا ونيوزيلندا واليابان وكوريا الجنوبية زاعماً أن "الشراكة الإقليمية الاقتصادية" تمثل تهديداً للديمقراطيات الليبرالية والقيم الغربية. لكن الواقع يؤكد أن الجانب الغربي عادةً ما يغض الطرف عن العلاقات المالية والتجارية الثنائية مع الصين.
فعلى سبيل المثال، الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري للصين، وتشير آخر الأحصاءات أن الصين أصبحت مؤخراً أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي أيضاً.
ونظراً لأن كتلة التجارة الحرة الجديدة تستبعد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ونظراً لأنها ستكون أكبر من اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا والاتحاد الأوروبي، يناقش المعسكر الغربي الآن آثار هذه الصفقة الجديدة عليه.
ويتساءل بعض البرلمانيين بعد فوز جو بايدن بالانتخابات الأمريكية، عما إذا كان الرئيس المنتخب سيتصرف بشكل بنّاء ويعيد توحيد حلف شمالي الأطلسي.
كما يرى بعضهم الآخر أن الاتفاقية الجديدة ما هي إلا جرس إنذار للغرب الذي ظل منزعجاً من سياسة ترامب الخارجية بشأن القضايا العالمية، الذي حاول تحدي الصين منفرداً دون إبداء أي تعاون مع أوروبا بالأمر.
فهل يواجه بايدن الصين ويتعاون مع أوروبا؟ وهو سؤال آخر يطرحه الأوروبيون.
في الحقيقة لم يتحدث بايدن كثيراً عن أجندة سياسته الخارجية لا سيما التجارية منها خلال حملته الانتخابية، لكنه وعد بأنه سيكون صارماً مع الصين. فهل يعيد النظر في الانضمام إلى الشراكة عبر المحيط الهادئ مثلاً؟ سوف تبدي لنا الأيام القادمة ذلك أيضاً.
الشرق يحثّ الخطا نحو الأمام بشكل متزايد
إن من إحدى الحقائق التي لا يمكن إنكارها حدوث معظم النشاط العالمي في الشرق وتزايده يوماً بعد يوم. وهذا يعني أن المزيد من النمو الاقتصادي والتحولات الجيوسياسية الهامة في آسيا توشك أن تطرق الباب بعد أن طال انتظارها.
وبالرغم من معارضة الولايات المتحدة، لا زالت التجارة والاستثمارات الأجنبية المباشرة مستمرة في النمو كل عام في الصين مع كل ما بذله ترامب من الجهود الكثيفة لعزلها ولكنه فشل.
واليوم، يبلغ حجم قطاع التصنيع في الصين ضعف حجم قطاع التصنيع في الولايات المتحدة، رغم انتشار جائحة كوفيد-19 من الصين إلى كافة أنحاء العالم وكانت الصين أول دولة تتعافى منه.
وكذلك ستكون الصين على الأرجح أسرع دولة تتعافى من الآثار الاقتصادية للوباء وتعيد الأمور إلى مسارها الصحيح أيضاً.
ماذا يفعل الاتحاد الأوروبي حيال النفوذ الصيني؟
مع حدوث كل هذه التغيرات والظروف في جميع أنحاء العالم، ما الذي يفعله الاتحاد الأوروبي على أرض الواقع حيال القوة الاقتصادية والنفوذ السياسي المتنامي للصين، بخلاف التذمر وانتظار الولايات المتحدة أن تتصرف بدلاً عنه؟
الاتحاد الأوروبي مشغول هذه الأيام في تقرير ما إذا كان سيفرض عقوبات على تركيا حليفته في الناتو، باعتبارها "جاراً سيئاً" لا يلتزم بالقواعد كاملةً.
ومعروف أن دور تركيا الحاسم في سوريا وليبيا وشرق البحر المتوسط، أثار انزعاج بعض دول الاتحاد الأوروبي، خاصة فرنسا واليونان والإدارة القبرصية الرومية.
فبحسب تصريحاتهم الملحة على الاتحاد الأوروبي الذي "يراقب فقط" و"يقف على الهامش"، يجب إيقاف تركيا على الفور. وهم يجادلون بضرورة معاقبة تركيا لأنها غيّرت ميزان القوى في ليبيا ودعمت الحكومة الشرعية المعترف بها من الأمم المتحدة ضد جيش الانقلابي خليفة حفتر. ولأنها دعمت باكو ضد يريفان التي هاجمت إقليم قره باغ وهو من أراضي أذربيجان المعترف بها دولياً. ولأنها حاربت العناصر الإرهابية على حدودها السورية لحماية أمنها القومي. ولأنها تتابع حقوقها في شرق المتوسط.
ومع انطلاق قمة زعماء الاتحاد الأوروبي يومي الخميس والجمعة، يذهب أعضاء حزب الشعب الأوروبي المصنفين من اليمين الوسط في اليونان والإدارة القبرصية الرومية إلى أبعد من ذلك، ويطلبون من الاتحاد الأوروبي النظر في "التعليق الكامل لاتفاقية الاتحاد الجمركي" مع تركيا .
إنه من تمام السخف أن يظل الاتحاد الأوروبي مهووساً بأنقرة وبالرئيس رجب طيب أردوغان، في حين أن اتفاق التجارة مع بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي قد وصل إلى "مرحلة حرجة"، واتفاقية التجارة العملاقة الجديدة في آسيا تواجه عدداً من التحديات والعيوب والمخاطر.
هل تتمكن المشاعر المعادية لتركيا من إحداث تأثيرات هامة؟
من غير المرجح أن يحصل المعسكر المناهض لتركيا في الاتحاد الأوروبي، على الدعم الذي يحتاجه من الدول الأعضاء الأخرى، لأن لدى العديد منهم استثمارات هامة في تركيا. وقد يكون هناك بدلاً من ذلك قرار بفرض رسوم جمركية جديدة على المنتجات التركية بعد عدة تحقيقات لمكافحة الإغراق.
وبالرغم من اتهام تركيا المتكرر بأنها تتخذ اللاجئين كسلاح ضد أوروبا، لكن أنقرة لطالما تعرضت للتهديد بالعقوبات من قبل حلفائها الغربيين.
والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل هي الوحيدة التي تدرك أهمية تركيا بالنسبة للاتحاد الأوروبي، وهي تدفع لإعادة تنشيط العلاقات من أجل مستقبل الاتحاد. وتؤكد على تحديث الاتحاد الجمركي بين الاتحاد الأوروبي وتركيا وتعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية مع تركيا بالإضافة إلى التعاون في مجال الهجرة وغيرها من الأمور ذات الاهتمام المشترك.
لكن الاتحاد الأوروبي المنقسم على نفسه، بوجود أعضاء فيه يطاردون طموحاتهم السياسية المغامرة، بات عاجزاً عن التنبؤ بالآثار طويلة المدى لخسارة تركيا ومعاداتها، بينما تتغير الجغرافيا السياسية في العالم.
وقد أكد أردوغان مؤخراً أن تركيا جزء من أوروبا، مضيفاً أن بلاده لن تستسلم لـ "الهجمات" ولا "للمعايير المزدوجة". وأضاف أنه لا توجد مشاكل مع الدول أو المؤسسات لا يمكن حلها بالسياسة والحوار. لكن محاولة التغلب على حليف لمجرد أنه يحمي حقوقه ومصالحه ليس حلاً.
يجب أن يدرك الاتحاد الأوروبي أنه سيظل يضعف ما لم يتوقف عن عزل تركيا. ولن يكون من الصعب على تركيا أن تجد مكاناً طليعياً لها في النظام العالمي الجديد الذي يتم تشكيله بواسطة اقتصاديات عالمية جديدة، كونها جسراً بين قارات أوروبا وآسيا مما يمنحها نفوذاً جيوسياسياً كبيراً يخلق لها العديد من البدائل. عندئذ لن يكون للاتحاد الأوروبي أي عذر في اتهام تركيا بأنها اختارت الجانب الآخر.