أجرى الرئيس رجب طيب أردوغان والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مكالمة هاتفية هذا الأسبوع بعد شهور من العلاقات الثنائية الباهتة. وجاءت المكالمة التي استمرت ساعة كاملة، كأول محادثة بين الزعيمين بعد مواجهة أدّت إلى تأجيج التوتر التركي اليوناني الأخير في شرق البحر المتوسط، حيث بدا الرئيس الفرنسي مستعداً لشن حملة صليبية ضد تركيا. وبدلا ًمن اتخاذ ماكرون سلوكاً عقلانياً وبحثه عن طريقة لتقليل الصراع، اختار أن يلوح بالعصا في محاولة لتخويف تركيا. وتأتي رغبة ماكرون في كسر تركيا نتيجةً لفشل الانقلابي الليبي خليفة حفتر المدعوم من فرنسا ضد حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من الأمم المتحدة والتي تدعمها تركيا.
ولم يقتصر الأمر على مهاجمة تركيا بالكلمات، بل أرسل ماكرون سفناً حربيةً وطائرات إلى شرق المتوسط بهدف دعم أثينا، بالرغم من عدم وجود شواطئ لفرنسا هناك، الأمر الذي رفع حدة التوتر في المنطقة إلى مستوى أكثر خطورة. وسعى أيضاً للحصول على دعمٍ من حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وأراد منهما مشاركته في موقفه العدواني ضد تركيا،
متجاهلاً دعوات أنقرة للحوار.
وقبيل قمة الدول المتوسطية في كورسيكا، قال ماكرون إن تركيا لم تعد شريكاً في منطقة البحر المتوسط، هادفاً إلى عزلها وإقصائها، وحاول أن يعبر عن موقفه بقوله أن مشكلته مع أردوغان وليست مع شعب تركيا، لتشجيع قادة الدول السبعة على الوقوف معه.
وقال مدعياً: "يجب أن نكون صارمين مع الحكومة التركية وليس مع الشعب التركي الذي يستحق أكثر من حكومة أردوغان".
لكن ماكرون الذي حاول إخفاء نواياه وأفعاله السياسية الحقيقية من خلال ترويجه لاستهداف الرئيس التركي فقط ، أخطأ تماماً في فهم المجتمع التركي وغاب عن ذهنه حقيقة أن الشعب التركي بكافة شرائحه سواء من يدعم أردوغان ومن لا يدعمه، متحدون ضد أحلام اليونان المتطرفة التي تتجاهل مصالح تركيا في شرق المتوسط.
وبالرغم من إصرار الزعيم الفرنسي على وضع "خطوط حمراء" في علاقته مع تركيا، لكنه اضطر إلى التراجع عن نبرة التهديد وتواصل مع أردوغان هذا الأسبوع. ووفقاً لبيان صادر عن قصر الإليزيه أشاد ماكرون خلال المكالمة الهاتفية بالمحادثات التي ستبدأ قريباً بين تركيا واليونان، وقال إن فرنسا مستعدة دائماً للحوار وهي تولي أهمية لإقامة علاقة متينة بين الاتحاد الأوروبي وتركيا. وفي الوقت ذاته، أخبر أردوغان ماكرون أن تركيا تتوقع أن تظهر فرنسا نهجاً "مسؤولاً وبناءً" وأن قنوات التشاور والتواصل بين البلدين يجب أن "تظل عاملة باستمرار"، وفقاً للبيان الصادر عن أنقرة.
لقد أدرك الرئيس الفرنسي أخيراً أن سلوكه المتغطرس وكلماته التهديدية لم ولن تنفع مع أنقرة بعد أن بذل جهداً كبيراً لبناء إجماع دولي ضد تركيا. فقد عمل بجدٍ مع اليونان والإدارة القبرصية الرومية لجمع قادة أوروبا معاً بهدف إرهاب الشعب التركي من خلال تحالف عسكري مشترك يدعم أثينا ونيقوسيا بشكل كامل. لكن الوقت قد حان الآن لكي يتوقف عن سفاهة أحلامه إذ لم يستطع إيذاء أنقرة بكلماته وأفعاله، ولم يستطع تشكيل تحالف مناهض لتركيا وسقطت وعوده بـ"تلقين تركيا درساً".
ونعلم جميعاً أن ماكرون يعظّم نفسه ويتصرف على أنه زعيم السياسة الخارجية في أوروبا لأن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون منشغل بإنهاء مشكلة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كما اختارت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل البقاء بعيداً عن الأضواء بسبب التحالفات المشلولة في ألمانيا أما الولايات المتحدة فقد فقدت سلطتها على الغرب. لذا يرى ماكرون في هذا الفراغ فرصته لقيادة أوروبا. لكن تصريحاته المتهورة وأفعاله المتناقضة وطموحاته المغامرة تزعج زملاءه الأوروبيين. فبالرغم من وجود ستة زعماء أوروبيين آخرين في قمة كورسيكا، كان ماكرون الوحيد الذي أراد بقوة حشد اليونان والقبارصة الروم ضد تركيا. إذ لا أحد يسعى للتكشير عن أنيابه في وجه أنقرة من خلال التواجد العسكري شرق المتوسط.
وقد كتبت صحيفة نيويورك تايمز العام الماضي أن ميركل قالت لماكرون خلال مأدبة عشاء بمناسبة ذكرى إزالة جدار برلين: "أتفهم رغبتك في السياسات التخريبية، لكنني سئمت من تجميع الشظايا. لطالما توجب علي أن ألصق الأكواب التي كسرتَها كي نتمكن بعد ذلك من الجلوس وتناول كوب من الشاي معاً". كما أتيحت الفرصة مراراً للرئيس الفرنسي للدعوة إلى حوار بين تركيا واليونان، وكان بإمكانه الجمع بين حليفي الناتو على طاولة المفاوضات وتخفيف التوتر تماماً كما فعلت ميركل، لكنه اختار أن يفعل العكس.
فأنجيلا ميركل التي لم تستسلم بالرغم من عودة المواجهة بين تركيا واليونان بعد تدخلها الأول، واصلت العمل على تخفيف التوترات وكان أردوغان منفتحاً على المحادثات معها، ليس فقط لأن برلين تتولى حالياً الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، بل لأن أنقرة تحترم جهودها أيضاً. وكان بإمكان ماكرون أن يفعل الشيء نفسه ويقوم بإجراء المكالمة الهاتفية منذ أسابيع بدل تأجيلها إلى هذا الأسبوع. كما كان بإمكانه أيضاً إحداث فرق ما وإظهار أنه مستعد لفعل شيء آخر غير الإدلاء بتصريحات براقة واستضافة اجتماعات فاخرةٍ في قصر الإليزيه. وباختصار لو كان بإمكانه أن يتصرف بحكمة، فلن يضطر أحد للقول إنه يجب أن يترك الحديث للكبار.
إن المحادثة بين أردوغان وماكرون مفيدة للجميع، وهي بمثابة دليل على أن ماكرون يمكن أن يكون بناءً ومنفتحاً على الحوار أيضاً. لكن عليه أن يتوقف عن الحديث بشكل مفرط إذا كان لا يريد أن يظهر كقائد فاشل مغامر. فارتجال الأفكار والتصرف بدون درايةٍ بالنتائج لا يجعل من المرء قائداً. ومع ذلك، لنتمهل قليلاً ونرى ما إذا كان سيرسل سفناً عسكرية وطائرات فرنسية إلى اليونان. نأمل ألا يفعل ذلك. مع أنه تمكن من بيع 18 مقاتلة من طراز رافال وأربع فرقاطات متعددة المهام إلى اليونان، ذات الاقتصاد المتقلب دائماً.