بعد مناقشات مطولة، اجتمع الرئيس رجب طيب أردوغان والرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم الأربعاء. وبصورة غير اعتيادية، تضمنت سلسلة المحادثات في البيت الأبيض وجود بعض أعضاء من مجلس الشيوخ الجمهوريين. وإن انضمام أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين المفاجئ، لبالغ الأهمية لأن التوتر بين تركيا والولايات المتحدة لم ينجم بسبب العداء بين أنقرة والبيت الأبيض، إنما بسبب عداء الكونغرس الأمريكي لتركيا.
أعطى الاجتماع الذي ضم أعضاء مجلس الشيوخ والرئيس أردوغان مؤشرات على رغبة ترامب بتحسين العلاقات الثنائية، لأنه قدم منصة للرئيس أردوغان مكنته من شرح مخاوف تركيا أمام أعضاء مجلس الشيوخ بشكل مباشر. بالاضافة إلى أن فتح جزء من هذا الاجتماع أمام الصحافة، أتاح وصول ردود الرئيس على تساؤلات أعضاء مجلس الشيوخ، إلى الصحافة الدولية.
على سبيل المثال، أجاب الرئيس أردوغان على تصريح السيناتور "تيد كروز" الذي قال: "لقد خاطر الأكراد كثيراً بالوقوف مع أمريكا ومحاربة عدونا المشترك، وهناك قلق حقيقي لأننا لا نريد أن نرى تركيا تشارك في أعمال هجومية ضد الأكراد". وقد رد عليه الرئيس بإجابة نقدية: "يجب أن نفرق بين الأكراد والإرهابيين. فالأكراد مواطنون أتراك. يمكنك فهم ما أعنيه في هذا المجال إذا أمكنك وضع التسميات في مكانها. وصل عدد الأكراد الذين لجأوا من عين العرب إلى بلادي خلال عهد السيد أوباما إلى 350.000 كردياً". لقد كان من المهم جداً لتركيا إبلاغ سياستها وموقفها هذا بشكل مباشر إلى أعضاء مجلس الشيوخ دون المرور بعبث أصابع الصحافة الدولية واللوبيات الأمريكية. وبالمثل، قال أردوغان في المؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيسان: "هناك حوالي 50 نائباً كردياً في حزبي، حزب العدالة والتنمية". وهذا التصريح أكثر من كافٍ بالنسبة لوسائل الإعلام الأجنبية التي تقدم مزاعم مضللة، إذا كانت رغبتهم جادة بفهم موقف تركيا الحقيقي من الأكراد.
لقد بدأت الدعاية المسيئة لتركيا في الولايات المتحدة بالتزامن مع انطلاق عملية نبع السلام التي أطلقتها تركيا من جانب واحد شرق نهر الفرات بعد المماطلة الأمريكية في المنطقة، وانتشرت في الشارع الأمريكي عبارات مثل "تركيا الجائرة تقتل الأكراد الأبرياء"، لذلك كان توضيح أسباب ومقاصد وتفاصيل قتال تركيا ضد تنظيم ي ب ك/بي كا كا الإرهابي من أهم أولويات أردوغان.
ومن المتوقع أن هذه المسألة قد تمت معالجتها بطريقة شاملة، سواء في الاجتماع مع أعضاء مجلس الشيوخ أو من خلال لقاءات الرؤساء والوفود المرافقة. علاوة على ذلك، يمكننا أن نستنتج من خلال اللقاء الصحفي المفتوح والملاحظات التي أدلى بها كلاً من الرئيسين أردوغان وترامب خلاله، أن الرئيس أردوغان أعرب أيضاً عن عدد من المخاوف بشأن الإرهابي "فرحات عبدي شاهين"، الملقب بـ"مظلوم كوباني"، الذي يُعامل في الولايات المتحدة على أنه قائد شرعي أو بطل. فشاهين هو الطفل المدلل لعبد الله أوجلان، وهو ليس جزءاً من تنظيم "ي ب ك" الإرهابي فحسب، لكنه أيضاً عضو نشط في الـ"بي كا كا" الدموي، وعلينا ألا ننسى الأعمال الإرهابية التي قام بها في تركيا، وأعداد المدنيين وضباط الشرطة الذين قتلهم في تركيا والعديد من القضايا الأخرى المتعلقة بهذا الإرهابي.
ورغم أن وكالة المخابرات المركزية قدمت إلى ترامب وثائق تثبت أن "فرحات عبدي شاهين" إرهابي، وأن كبرى وكالات الاستخبارات العالمية تمتلك الآن معلومات وأدلة موثقة على هذه الحقيقة، إلا أنه لا يزال يعامل كبطل في الولايات المتحدة. لنأمل أن تصحح واشنطن هذا الخطأ بعد أن يعزز الرئيس الحقائق.
وفي شأن هام آخر، أوضح الرئيس أردوغان مرة أخرى بالتفصيل خطة بناء منطقة آمنة في سوريا، وأبدى إصرار تركيا عليها، وتحدث عن أعداد اللاجئين السوريين الذين يمكن أن ينتقلوا للعيش هناك. وشرح تفاصيل أخرى مدهشة، فبالإضافةً إلى مليون لاجئ محتمل يمكن وضعهم في منطقة عمقها 32 كيلومتراً شرق الفرات، يمكن وضع مليون شخص آخر جنوباً، في مناطق مثل الرقة ودير الزور، بعدما قدم عرضاً مرئياً لهذا الأمر في الجمعية العامة للأمم المتحدة. من الواضح أن تركيا ستواصل إصرارها على إيجاد حل لهذه القضية التي تمثل أيضاً مشكلة للاتحاد الأوروبي. ومن التفاصيل الأخرى الهامة في هذا الشأن، دعم ترامب لموقف أردوغان حين أكد أن الاتحاد الأوروبي يقف موقفاً غير مسؤول تجاه قضية اللاجئين السوريين ويتهرب من سحب أعضاء داعش الأوروبيين.
لقد أدت محادثات ترامب مع الرئيس أردوغان بوجود أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين إلى تخفيف حدة التوتر بين أنقرة والكونغرس الأمريكي، ولو بشكل مؤقت. وذلك أن السناتور الجمهوري "ليندسي غراهام"، نتيجة لهذا الاجتماع، منع تنفيذ اقتراح السيناتور الديمقراطي "روبرت مينينديز" تقديم القرار المتعلق بالقضية الأرمنية المزعومة إلى مجلس الشيوخ بعد مجلس النواب. وردد "غراهام" الأكثر تأييداً للعقوبات المفروضة على تركيا ما قاله الرئيس أردوغان قائلاً: "أعضاء مجلس الشيوخ يجب ألا يحاولوا إعادة كتابة التاريخ" إذ أن تركيا فتحت أرشيفها المتعلق بهذه القضية بشفافية. واقترح أيضاً أنه ينبغي على أعضاء الكونغرس قبل إصدارهم أحكاماً مفاجئةً على الأحداث التاريخية، البحث في مصادر أخرى مثل التقارير الموجودة في الأرشيف الوطني الأمريكي.
ومن الموضوعات الرئيسية التي طرحت أيضاً، موضوع تطوير التجارة بين الولايات المتحدة وتركيا، وبدا من المحير كيف ستطبق الولايات المتحدة الأمريكية نهج "لنفصل التجارة عن السياسة" المذكور في المؤتمر الصحفي، وهي التي دأبت على تهديد تركيا بفرض عقوبات اقتصادية في كل نزاع سياسي. لكن، إذا تخلت الولايات المتحدة عن التهديد بالعقوبات التجارية والاقتصادية، فما الذي يتبقى لها لتهدد به تركيا؟
بصرف النظر عن كل هذا، وكما يتضح من البيانات الواردة في الصحافة، فإن القضية الأكثر أهمية بالنسبة للجانب الأمريكي هي شراء تركيا لصواريخ إس-400. إن حيازة حلف الناتو على نظام دفاع جوي روسي من شأنه أن يسهل دخول روسيا إلى سوق الأسلحة التي تهيمن عليها الولايات المتحدة. إنها لحقيقة أن حلفاء الناتو وخاصة الولايات المتحدة، قد تخلوا عن تركيا في العديد من القضايا على مدى السنوات الست أو السبع الماضية، خاصة في قضية سوريا. لقد دُفعت أنقرة دفعاً للتقارب مع موسكو من أجل قضايا مثل ملف سوريا وملف الدفاع وغيرها. ومن المهم أن الرئيس أردوغان قد شرح خلال زيارته هذا الموقف الذي بدأ خلال عهد باراك أوباما، وأوضحه للجميع باستثناء ترامب الذي يدركه بالفعل.
إن مشكلة إس-400 لا يمكن حلها على المدى القصير. مع ذلك، إذا تم إحراز أي تقدم في حل المشكلات الأخرى بين الولايات المتحدة وتركيا، فقد يكون هناك إمكانية لاتفاق يرضي الطرفين. وإذا لم يتم التوصل إلى اتفاق، فلا شك أن القضية لن تبقى بين البلدين فحسب، بل ستتطور إلى نقاش يشمل جميع أعضاء الناتو الذين يمكن أن يؤثروا على مستقبل الحلف. في هذه الحالة، سيصبح بيان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن حلف الناتو "ميت سريرياً"، الذي أدانه كلا الرئيسين، حقيقة. وهذا يعني فتح المجال أمام التطورات التي ستغير توازن العالم جذرياً.
لا يمكن القول إن التحقيق في قضية عزل ترامب التي بدأت جلسات الاستماع العامة فيها في الكونغرس، بالتزامن مع الاجتماعات الأمريكية التركية، سيطغى على أهمية تلك الاجتماعات. فحقيقة ما أولاه ترامب من أهمية كبيرة لاستضافة أردوغان قد عززت إمكانية "فتح صفحة جديدة في تحسين العلاقات" بالطريقة التي يريدها البيت الأبيض وأنقرة. مع ذلك ، فإن وجود العديد من اللاعبين والعوامل الأخرى التي تساعد على تحديد مسار العلاقات الثنائية، يجعل الترقب الحذر نهجاً أكثر دقةً من التفاؤل المبكر، في الوقت الحالي.