استضاف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قمة ثلاثية مع نظيريه التركي والإيراني، رجب طيب أردوغان وحسن روحاني، في مدينة سوتشي الروسية على البحر الأسود الأسبوع الماضي. ركز القادة الثلاثة على التسوية طويلة الأجل لأزمة استمرت ثمانية أعوام في سوريا، لكنهم عقدوا اجتماعات فردية أيضًا. القمة هذه هي القمة الرابعة، منذ التقى أردوغان ببوتين وروحاني لأول مرة في سوتشي عام 2017، في أعقاب وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في ديسمبر 2016 من قبل روسيا وإيران، عندما قررت الدول الضامنة الثلاث إقامة مناطق خفض التصعيد في البلد المدمر.
واتفق القادة الثلاثة خلال القمة على أن انسحاب الولايات المتحدة من شمال شرق سوريا "سيكون خطوة إيجابية تساعد على استقرار الوضع في هذه المنطقة، حيث يجب على الحكومة الشرعية في نهاية المطاف استعادة السيطرة"، كما قال بوتين في المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقد بعد الاجتماعات.
ومع ذلك، يعتقد بوتين أن تغييرات كبيرة من شأنها أن تشير إلى انسحاب أمريكي من سوريا، لم تظهر حتى الآن، بالرغم من إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في ديسمبر، عن عزمه على مغادرة سوريا.
بالنسبة لروحاني لم يكن الوجود الأمريكي لا في سوريا ولا في بلدان أخرى مفيدا. وقال في المؤتمر الصحفي: "يجب على أميركا إعادة النظر في سياستها في الشرق الأوسط". وبدوره أكد أردوغان أن وحدة أراضي سوريا لا يمكن ضمانها ما دام تنظيم "ب ي د/بي كا كا" الإرهابي المدعوم من الولايات المتحدة، موجوداً في شمال سوريا. وقبل توجهه إلى قمة سوتشي، قال أردوغان إن أنقرة تريد حلاً دائماً في سوريا وتسعى للتنسيق مع روسيا لإنشاء "منطقة آمنة" في الشمال السوري.
فراغ ما بعد الانسحاب الأمريكي:
علاوة على ما سبق، من الواضح جداً أن لدى الرؤساء الثلاثة مقاربات مختلفة حول من سيملأ الفراغ في شمال سوريا بعد الانسحاب الأمريكي، في حال حدوثه. الأمر نفسه تمت مناقشته بين الرئيسين أردوغان وبوتين في موسكو الشهر الماضي. الكثيرون في روسيا وتركيا وفي جميع أنحاء العالم، يخامرهم اعتقاد أن بوتين يحث أردوغان على الاتصال المباشر مع بشار الأسد.
والبعض في روسيا يعتقد أن تركيا ليس لديها الحق في إنشاء "منطقة آمنة" داخل سوريا، ما لم تطلب موافقة بشار الأسد وتحصل عليها بالفعل، مثل "ماريا زخاروفا" المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية. لكن بوتين لم ينطق جهاراً باسم الأسد، سواء في سوتشي الأسبوع الماضي، أو خلال المؤتمر الصحفي في موسكو. بل فضل استخدام كلمات مثل "الجمهورية السورية" أو "سوريا" بدلاً من "الأسد".
بالنسبة لإيران، بالطبع، يجب أن يكون الأسد بالذات هو الشخص الأول الذي تتعامل معه أنقرة. لكن وبالرغم من الرؤية الروسية والإيرانية للأسد الذي أوغل في قتل شعبه بإصرار وتعمد، فهو لا يزال جزاراً في نظر أنقرة، ولا يمكن الوثوق به حتى إن غيّرت تركيا من أولوياتها في سوريا بعد أن بدأ التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة بدعم ي ب د/بي كا كا المنظمة الإرهابية المصنفة على اللائحة السوداء في تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
مخاوف أنقرة من الأسد:
في واقع الأمر، ناهيك عن جرائم الحرب التي يرتكبها الأسد في سوريا، فإن تركيا محقة تماماً في مخاوفها منه ومن نظامه. ومعروف، بعد أن أصيب "ي ب ك/بي كا كا" بالذعر بعد قرار انسحاب ترامب، أن نظام الأسد و"ب ي د" يحاولان إيجاد أرضية مشتركة لاستئناف علاقاتهما الوثيقة. عام 2013، وقع خلاف كبير بين الأسد وتنظيم "ب ي د" الإرهابي، حيث أراد الأول استخدام المنظمة الإرهابية كأداة ضد تركيا. ثم اختار التنظيم أن يصبح "حذاء الولايات المتحدة على الأرض" بعد أن قررت هذه الأخيرة دخول الأراضي السورية.
دون أن يستخدم تسميات صريحة من قبيل تنظيم "بي كا كا" أو "ب ي د" أو "ي ب ك"، أو ما يسمى بـ"قسد"، وهي في مجملها عبارات ومسميات استنبطها الأمريكان للتغطية على دعم واشنطن لجماعة إرهابية ضد جماعة إرهابية أخرى، تسمى داعش؛ قال الأسد في كلمة له ألقاها قبل ثلاثة أيام مخاطباً "ب ي د": "هؤلاء الذين يثقون بدعم الولايات المتحدة في سوريا، ستبيعهم واشنطن، لأنها تعتبرهم قصاصات بالية في صفقة سياسية". مشيراً على ما يبدو إلى المحادثات بين أردوغان وترامب فيما يتعلق بالحدود السورية التركية. وقال: "الاعتماد على الدعم الأجنبي سيجعل من تلك الجماعات عبيدا لتركيا"، وأضاف "لن يحميكم أحد باستثناء دولتكم".
في نفس اليوم الذي قال فيه الأسد هذه الكلمات، تحدث المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، جيمس جيفري، في مؤتمر ميونيخ الأمني وقال إن واشنطن لا تريد أن يستعيد النظام السوري السيطرة على الأجزاء الشمالية الشرقية من البلاد بعد انسحاب القوات الأمريكية.
أمام الكاميرات وأثناء المحادثات "الصائبة سياسياً"، الجميع باستثناء نظام الأسد، يقول إن مطالب تركيا الأمنية مشروعة. مما يعني موافقتهم على إنشاء منطقة آمنة بعمق 30-40 كيلومتر على الحدود السورية التركية بطريقة أو بأخرى. لا سيما بعد أن أظهر أردوغان إصراره الشديد على إنشاء هذه المنطقة في ديسمبر، من خلال التأكيد على أن تركيا لن تسمح بوجود أي مجموعات إرهابية بالقرب من حدودها. إذ قال علناً إن عملية عسكرية جديدة ستبدأ في أي لحظة في شمال سوريا، وذلك قبل أيام قليلة من إعلان ترامب قراره بسحب القوات الأمريكية.
اليوم، تتحدث تركيا إلى كل من الأمريكان والروس حول إقامة منطقة آمنة في شمال سوريا، وتصر على أن هذه المنطقة الآمنة ستكون تحت سيطرة الجيش التركي والجماعات المدعومة من تركيا. ومع ذلك، فإن مواقف الآخرين فيما يتعلق بهذا الأمر لا تزال غير واضحة. من ناحية أخرى، إذا تم إنشاء هذه المنطقة الآمنة، فهل ستكون مجاورة لمناطق نفوذ "ب ي د" العمود الفقري لـ"قسد"؟ هذه علامة استفهام أخرى.
تضارب المصالح:
في الوقت كانت تركيا، وهي إحدى الدول الثلاث الضامنة لمناطق خفض التصعيد وشريكة في عملية أستانا، تدافع عن حقوق المعارضة منذ بداية الحرب الأهلية الدموية، كانت روسيا وإيران الداعمين الأساسيين لنظام الأسد. ومع ذلك، هناك العديد من تضارب المصالح بين إيران وروسيا على الأرض. إذ لوحظت حالات تصادم وتنافر مستمرة بل ومتصاعدة، بين روسيا من جهة وحلفاء الأسد المدعومين من إيران من جهة، وهي آخذة في التزايد يوما بعد يوم. كما أن الكثير من التوقعات بأن روسيا ستجبر إيران على الخروج من سوريا، آخذة في التزايد. بالطبع، هذا النوع من التناحر سيجعل إسرائيل والولايات المتحدة سعداء، وهناك العديد من التقارير التي تزعم أن روسيا وإسرائيل تعملان على مثل هذه الصفقة. لكن إذا كانت هذه التكهنات صحيحة، فما هو رد فعل إيران، خاصة بعد استثمارها الكثير في سوريا ونظام الأسد؟
المراهنة على النظام:
علاوة على ذلك، يظهر السعوديون والإمارات العربية المتحدة ومصر، رغبةً واندفاعاً لاحتضان الأسد مرة أخرى من أجل كبح نفوذ إيران وتركيا، وهم يقومون بإحياء وتعزيز جهود العالم العربي للسماح لسوريا بالعودة لجامعة الدول العربية. ومرة أخرى، ماذا ستفعل إيران إذا اختار الأسد شغل مقعده مرة أخرى في الجامعة العربية؟
لا أعرف ما هو رأيكم لكنني متأكدة أن إيران لن تكون مسؤولة عن النهاية البائسة للأسد، بعد كل ما ضحت به للسيطرة على سوريا. من ناحية أخرى، الدول العربية التي تقودها الإمارات مستعدة لتقديم الدعم إلى تنظيم "ي ب د" الإرهابي، لوقف تركيا في سوريا، سواء أقبل الأسد أو لم يقبل عروضهم بالعودة إلى الجامعة العربية.
الأهم من ذلك، أن التوترات بين الجماعات المسلحة التابعة للأسد، تشير إلى تزايد الصراعات بين القوات المدعومة من إيران والقوات المدعومة من روسيا على الأرض. ووفقاً للمصادر الميدانية، فإن القتال الدموي الذي وقع في الشهر الماضي باستخدام أسلحة ثقيلة في منطقة سهل الغاب في حماة، كان بين جماعات مدعومة من روسيا وأخرى مدعومة من إيران حول مناطق نفوذ.
وتزعم التقارير أن الفرقة الرابعة التي تدعمها إيران رفضت تسليم المناطق الخاضعة لسيطرتها إلى الفيلق الخامس والفرقة الثامنة المدعومة من روسيا، وامتدت المعركة إلى نقاط التفتيش التي تسيطر عليها مجموعة يرأسها ماهر الأسد. وبالطبع أوقعت الاشتباكات العشرات من القتلى على الجانبين.
كما زعم مصدر تحدث إلى المرصد السوري، أن روسيا تسيطر على الجبهات وأن القوة العسكرية في أيديهم، وأنها سلمت السلطة للعميد سهيل الحسن، قائد قوات النمر والمعروف بطاعته للأوامر الروسية وهو من آلت إليه السيطرة الكاملة على قاعدة أبو الضهور الجوية بعد أن سحبت روسيا قواتها منها وسلمتها إليه.
وبناء على ذلك، فقد توترت العلاقة بين الحسن وماهر الأسد بشدة، لأن ماهر الأسد يعتبر الحسن متمردًا بسيطرته على قاعدة حميميم الجوية، مع ملاحظة أن الحسن لا يأخذ أي أوامر من وزير الدفاع السوري، وأن الدبابات والقوات قد تم سحبها من الفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد وإرسالها إلى الفرقة الخامسة بقيادة الحسن.
ويزعم المصدر أيضا، أن ماهر الأسد طلب عقد اجتماع مع الحسن في قاعدة حميميم عدة مرات، لكن موسكو رفضت مرارا وتكرارا، مما زاد من حدة الخلاف بينهما وعزز الصراع على الأرض الأمر الذي لا يزال مستمراً إلى الآن.
هل الانقلاب على الباب؟
وبينما تتحدث العديد من التقارير في وسائل الإعلام الموالية للأسد عن شكوك حول قيام القائد الميداني المدعوم من روسيا، العميد الحسن بمحاولة انقلاب ضد نظام الأسد، يبقى سؤال أخير: أين فاروق الشرع، النائب السابق للأسد؟ وقد نوقش اسم الشرع، الذي لم تتلوث يداه بسفك دم السوريين، كرجل يمكن أن تقبله جميع الأطراف إلى أن يتم إجراء انتخابات نزيهة وشرعية. وقد كان خارج المشهد السياسي إلى أن ذكرت وسائل الإعلام الروسية في العام الماضي، أنه سيكون حاضرا ومن المرجح أن يرأس مؤتمر الحوار السوري في سوتشي. على ما يبدو، لم تتم الموافقة على اسمه من قبل نظام الأسد. والأهم من ذلك، أن بعض المصادر على الأرض تزعم أن الشرع قد تمت استضافته من قبل ممثلي روسيا لفترة من الزمن، في قاعدة حميميم.
من الواضح أن بوتين يرسم نهاية اللعبة في سوريا على أساس سيادتها وسلامة أراضيها، لكن هذه النهاية بعيدة عما يعتقده الناس. لا أعتقد أنه يريد أن يبقي حمل الأسد عبئاً على كاهله، كما أنه يريد أن يثبت أن روسيا قادرة على تحقيق الاستقرار في بلد مزقته الحرب في الشرق الأوسط، حيث لا يمكن أن ينجح الأمريكيون. لكن القضية الأساسية هي بناء قوة أمنية من أجل مستقبل سوريا، وقد فقد نظام البعث أناساً كثر في الحرب الأهلية.
أنا أراهن على أن بوتين يدرس الآن أي جماعة أو جماعات ستكون جزءاً من الجيش السوري بعد استقرار البلاد وعودتها إلى الحياة الطبيعية، والأغلب أن يتحدث في ذلك بشكل مباشر مع أردوغان وبشكل غير مباشر مع ترامب.