تنبأت هيئة الاستخبارات والتنبؤ العالمي المعروفة باسم ستراتفور، ومقرها الولايات المتحدة، بأنه "سيكون هناك (أربع أوروبات)"، وذلك في تقريرها لتوقعات العقد القادم والصادر في فبراير من العام الماضي، الذي ترصد فيه المؤسسة توقعاتها للتطورات السياسية والاقتصادية في السنوات العشر المقبلة. يشكل هذا التوقع أحد توقعات ستراتفور المثيرة لما سيجري في العالم ما بين عامي 2015-2025. أما "الأوروبات الأربعة" التي تحدث عنها التقرير، فهي أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية، والدول الاسكندنافية، والجزر البريطانية. هذه "الأوروبات الأربعة" ستعيش حالة من الفرقة على الرغم من تقاسمها منطقة جغرافية واحدة. لكنها ستكون أقل قرباً وترابطاً مما كانت عليه في السابق.
ويقول التقرير: "قد يتمكن الاتحاد الأوروبي من الحفاظ على وجوده بشكل ما. لكن العلاقات الاقتصادية والسياسية والعسكرية الأوروبية ستكون محكومة بعلاقات ثنائية أو علاقات متعددة الأطراف إنما محدودة، وستكون ضيقة المجال وغير ملزمة. قد تبقي بعض الدول على عضويتها في الاتحاد لكن ذلك لن يكون كافياً ليكون عنواناً لأوروبا".
عادة لا أعير كثيراً من الاهتمام لمثل هذه التقارير، كون العشر سنوات مدة زمنية طويلة فعلاً، لكنني أحتفظ بهذه المعلومات في ذاكرتي البعيدة. عندما نشر التقرير، لم تكن أوروبا تبدو قوية وواعدة كما كانت قبل بضع سنوات. لكنها في الوقت نفسه لم تكن تبدو وكأنها بدأت تتفسخ. حتى عندما كانت اليونان تقف على حافة الإفلاس وكان يجري نقاش عضويتها في الاتحاد الأوروبي، لم يكن حينها الشك في مستقبل الاتحاد الأوروبي قائماً إلى هذا الحد.
منذ زمن طويل، كان المتشككون في الاتحاد الأوروبي يتحدثون عن تأثير بروكسل الشديد على دول الاتحاد الأوروبي سياسياً واقتصادياً. وكانوا يطالبون بمزيد من سيطرة الدولة على قوانينها ولوائحها. أي أن المشكلة كانت تتعلق بالسيادة بالدرجة الأولى. وكان اليمين المتطرف في أوروبا في نمو. لكن غياب مشكلة أمن الحدود عن المشهد في ذلك الوقت، جعل تقرير ستراتفورد مبالغاً فيه من وجهة نظري.
ومع ذلك، يتوقع أن تشهد بريطانيا، الأسبوع المقبل، استفتاء حول البقاء في الاتحاد الأوروبي أو مغادرته. وإن قررت بريطانيا في الـ 23 من الشهر الجاري مغادرة الاتحاد فسيكون لذلك أثر الدومينو الذي لا يمكن تجنبه. حتى أن مجرد قرار التوجه إلى الاستفتاء قد بدأ بتشكيل تأثير عام في أوروبا. وبحسب سياسيين ومراقبين، فإن عقد استفتاءات مماثلة في دول مقربة من بريطانيا مثل إيطاليا وفرنسا وهولندا، سيكون له أثر أعظم من خروج بريطانيا من الاتحاد. تشير الإحصائيات أيضاً إلى انخفاض كبير في الدعم الشعبي للاتحاد الأوروبي في دول الاتحاد. فعلى سبيل المثال، أشارت إحصائية أقامها مركز البحوث بيو، ومقره واشنطن، نشرت الأسبوع الماضي، أن الدعم الشعبي للاتحاد الأوروبي في ألمانيا، قد انخفض إلى 50% بفارق ثمانية نقاط عن العام الماضي. كما انخفض دعم الشارع في إسبانيا بواقع 16 نقطة، ليصل إلى 47%. كما وصل إلى 44% في بريطانيا منخفضاً بنسبة 7%. وفي فرنسا انخفض بمقدار 17% ليصل إلى 38%. فيما سجل أدنى مستوى له في اليونان، بواقع 27%.
ولا بد من صراحة القول أن السبب الرئيسي الذي جر الاتحاد الأوروبي إلى هذه الحالة، يكمن في تدفق اللاجئين والمهاجرين الذي بدأ العام الماضي، واضطرار أوروبا إلى التعامل مع أسوء أزمة إنسانية يشهدها العالم في العصر الحديث. فعلى سبيل المثال، يقول الداعمون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أن على بريطانيا أن تفرض المزيد من السيطرة على حدودها ضد موجات اللجوء القادمة من القارة الأوروبية. حتى إن قرر الشارع البريطاني التصويت لصالح البقاء في الاتحاد، فإن بريطانيا ستتخذ نوعاً خاصاً من العلاقات مع الاتحاد الأوروبي في القضايا المتعلقة بالسيادة والاقتصاد واللجوء وغيرها، وذلك بحسب ما توصل إليه رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون مع قادة الاتحاد الأوروبي بعد فترة قصيرة من الانتخابات التي فاز بها بالاعتماد على وعوده في الذهاب إلى الاستفتاء.
هذا يعني تقليص أعداد اللاجئين الواصلين إلى بريطانيا من دول الاتحاد الأوروبي، وفرض المزيد من السيطرة على السفر إليها وتقييد عمالة المهاجرين. وهل يمكن لهذه الإجراءات ألا تثير مشاعر القلق والغيرة لدى المشككين في الاتحاد الأوروبي في القارة الأوروبية؟!
لقد استغرق الأمر قرابة العام الواحد قبل أن ندرك بأن حلم الاتحاد الأوروبي قد يتحول إلى كابوس. التصريحات التي سمعناها مراراً حول وقوف الاتحاد الأوروبي على حافة الانهيار، أصبحت أكثر مغزى بعد أزمة اللاجئين. الأوروبيون برروا سياساتهم غير الرحيمة تجاه اللاجئين بالحاجة إلى حماية القيم الأوروبية، إلا أن ذلك لم يحل دون نمو مشاعر العداء للآخر والإسلاموفوبيا وعداء المهاجرين. يريدون حماية أوروبا، لكن الاتحاد الأوروبي يتفتت الآن ونهايته تبدو قريبة.
إن قوة الإتحاد الأوروبي تكمن في رفعه للحدود بين الدول وإزالة الحواجز السياسية والاقتصادية، وبالتالي تقليل مشاعر القومية في أوروبا. لكن هذه الحدود والحواجز تعود لأوروبا اليوم من جديد. قد تعتقدون أن أوروبا قد فشلت اليوم في اختبار الإنسانية وحقوق الإنسان، لكنني أؤكد لكم أنكم لم تروا شيئاً بعد.