بعد أشهر من الاستعدادات، أجريت عملية استخباراتية واسعة النطاق في 8 ولايات تركية في الساعات الأولى من اليوم الثاني من العام الجديد 2024، ولم تكن هذه العملية، التي نُفّذت بشكل متزامن مع الشرطة والسلطات القضائية، الخطوة الأولى ضد شبكة جواسيس مرتبطة بالموساد الإسرائيلي. ففي الواقع، كانت الخطوة الأخيرة استمراراً لسلسلة العمليات التي يعود تاريخها إلى عام 2021، حيث تم منذ ذلك الحين، اعتقال عدد كبير من الأفراد المنحرفين الذين لهم صلات بأعلى وكالة تجسس إسرائيلية وشبكاتها، والتي تحاول القيام بأنشطة تجسس استفزازية في تركيا.
وقد نشرت صحيفة "ديلي صباح" تقارير مفصلة عن العملية الأخيرة، الثلاثاء، ومع أن القيام بعملياتٍ في بلدان أخرى، جزء من طبيعة التجسس، إلا أن الأمر يقتضي أيضاً إبلاغ سلطات الاستخبارات المحلية واحترامها. وفي الآونة الأخيرة، لم تفشل وكالة التجسس الإسرائيلية في اتباع هذه التقاليد فحسب، بل راحت تعمل بشكل مكثف لتنفيذ أنشطة ضد تركيا داخل الحدود التركية.
العلاقات على أسس هشة
بالرغم من دبلوماسية التقارب قبل أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، والمذبحة التي تلت ذلك بحق الفلسطينيين في غزة، ظلت العلاقات التركية الإسرائيلية تقوم على أسس هشة، منذ الهجمات الإسرائيلية على أسطول "مافي مرمرة" في مايو/أيار 2010، ومن قبل كان الرئيس رجب طيب أردوغان قد اتخذ موقف "دقيقة واحدة" في دافوس في كانون الثاني/يناير 2009.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن موقف تركيا الثابت في التضامن مع النضال الفلسطيني والوقوف ضد جرائم إسرائيل في الأراضي المحتلة، جعل من الصعب إيجاد أرضية مشتركة لاستعادة العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، وما محاولات إصلاح العلاقات مع تل أبيب إلا جزءاً من موجة جهود التطبيع في المنطقة، والتي لعبت فيها أنقرة بشكل فعال دوراً رئيسياً، حيث قامت بتطبيع علاقاتها مع الدول المؤثرة إقليمياً، مثل مصر والسعودية والإمارات وأرمينيا، وبالرغم من تعثر المحادثات مع سوريا، لا تزال هناك أيضاً جهود لتطبيع العلاقات مع اليونان كجزء من تشكيل السياسة الخارجية الجديد والمتعدد الأبعاد.
ومن المعروف أن دبلوماسية التقارب لا يمكن أن تتم، عندما لا تكون هناك تسوية، ولا يؤدي التطبيع إلى منافع متبادلة، وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي أيضاً أن تكون آثاره الإقليمية محسوبة جيداً، فما هو نوع التطبيع الذي يمكن أن يحدث مع سوريا عندما يغض النظام الطرف عن الأنشطة الإرهابية داخل حدوده ويتوقع أن تظل السلطات التركية مكتوفة الأيدي أمام التهديدات التي تتعرض لها سيادتها؟ وبالمثل، كيف يمكن للتطبيع أن يستمر بين أنقرة وتل أبيب عندما ترتكب الأخيرة جرائم على جميع المستويات ضد الفلسطينيين في غزة وجميع الأجزاء الأخرى من الأراضي المحتلة، ناهيك عن أنشطة الموساد التجسسية داخل تركيا؟
موقف "دقيقة واحدة" ضد الظلم المنهجي
لم يعد سراً أن قوة الاستخبارات التركية وقدراتها تحسنت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، وأسفر النشاط العملياتي لوكالة الاستخبارات الوطنية "MIT" على الصعيدين المحلي والخارجي، عن نتائج مهمة في حرب تركيا ضد الأنشطة الإرهابية لتنظيم "بي كي كي" وجماعة غولن الإرهابيين وأباطرة المخدرات والعصابات، والأنشطة الإجرامية الأخرى.
وبالإضافة إلى ذلك، تمكنت العمليات الناجحة من كشف أنشطة التجسس الأجنبية داخل البلاد والحد منها، ومن غير المستغرب أن تستمر هذه العمليات بإصرار، ومع ذلك، لا ينبغي أن ينظر إلى هذه العمليات على أنها مجرد أنشطة لمكافحة التجسس من قبل أنقرة، بل يجب اعتبارها جزءاً من موقف "دقيقة واحدة" المبدئي.
إن موقف "دقيقة واحدة" ضد الجرائم الإسرائيلية هو موقف تأسيسيـ والأمر ليس مجرد خطاب سياسي، بل هو موقف أوسع ضد الظلم العالمي والأخطاء النظامية، إنه موقف يرفع الأصوات ضد الخلل الوظيفي في مؤسسات الحكم العالمي ويدعو إلى الإصلاح من خلال شعار الرئيس أردوغان "العالم أكبر من خمسة".
ولابد من قراءة موقف "دقيقة واحدة" ضد أنشطة التجسس من خلال توجه يسعى إلى إنشاء نظام دولي تسود فيه العدالة والإنصاف، وليس نظاماً يخدم مصالح الأقوياء على حساب الآخرين.
وفي اليوم الأول من العام الجديد، تجمع آلاف الأشخاص في إسطنبول لتكريم الجنود الأتراك الذين سقطوا في الحرب ضد الإرهاب، ودعم الفلسطينيين في غزة الذين يتعرضون للهجمات المتواصلة من قبل إسرائيل، وارتفعت الأصوات عالياً "من أجل مستقبل عادل"، وهذا المستقبل العادل يمكن تحقيقه فقط إذا تمكن المجتمع الدولي من الاتحاد ضد الظلم، عبر المؤسسات الدولية التي من شأنها حماية ودعم "الحق" وليس فقط دعم "الأقوياء".