في فصل يلطخ صفحات تاريخ العالم، أدت الغارات الجوية الإسرائيلية المستمرة على غزة إلى خسارة مأساوية لحياة ما يقرب من 6 آلاف شخص، نسبة كبيرة منهم من النساء والأطفال. فمن قصف المناطق السكنية إلى استهداف المستشفيات، وأدت الانتهاكات الصارخة للقانون الإنساني الدولي والمعايير الأخلاقية التي ترتكبها إسرائيل إلى خلق أزمة إنسانية ذات أبعاد غير مسبوقة.
ومما يثير القلق أن البيانات الواردة من الأرض تشير إلى أن القوة المتفجرة التي أطلقت على قطاع غزة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر يمكن مقارنتها بالقنبلة النووية التي ألقيت على هيروشيما. وقد صمدت المنطقة ذات الكثافة السكانية العالية التي تبلغ مساحتها 364 كيلومتراً مربعاً، والتي تضم 2.3 مليون نسمة، في وجه أسوأ أعمال العنف هذه، حيث تم إسقاط ما معدله 33 طناً من المتفجرات في كل كيلومتر مربع.
وما يضيف طبقة من التعقيد إلى هذا الوضع المزري هو الدعم السياسي والعسكري الذي لا يتزعزع الذي تقدمه لإسرائيل الدول التي تبدو أكثر ديمقراطية وقوة في الغرب. ورغم أن بعض الجهود الدبلوماسية التي يبذلها زعماء في دول مثل تركيا وقطر ومصر تهدف إلى توفير السهولة الإنسانية للمدنيين، فإن العالم الغربي يبدو غير متأثر إلى حد كبير بالصور المروعة التي تخرج من غزة، حيث يتحول الأطفال إلى أشلاء بشكل مأساوي.
ويلوح في الأفق سؤال ملح: متى سيتوقف الغرب عن دعم الاعتداءات الإسرائيلية على الأطفال الفلسطينيين؟ فهل سيدفعها الوعي الجماعي لهذه الدول إلى ترجمة كلمات الإدانة إلى عمل حاسم، وربما الدعوة إلى وقف إطلاق النار؟ إن حالة عدم اليقين واضحة على الرغم من التحولات في الخطاب، مثل تحول تركيز بايدن من إسرائيل فقط إلى الاعتراف بالأرواح المفقودة بين الفلسطينيين.
وفي رسالة نشرها مؤخراً على حسابه في منصة "إكس" (تويتر سابقاً)، أكد الرئيس الأمريكي جو بايدن التزام الولايات المتحدة بحق الشعب الفلسطيني في الكرامة وتقرير المصير، مشدداً على أن تصرفات إرهابيي حماس لا تتفق مع هذا الرأي. لا ينفي هذه الحقوق. ومع ذلك، يجب تذكير السيد بايدن بأن حق الفلسطينيين في الكرامة يسبق هذه اللحظة، وهو حق متجذر في عقود من الاحتلال الإسرائيلي والعنف والتهجير القسري والسلب.
حل الدولتين الذي طرحه بايدن على أساس "حق إسرائيل في الوجود"
إن الإشارة المتكررة لحل الدولتين من قبل السيد بايدن تثير الدهشة، حيث يبدو أنها تظل مجرد كلام مبتذل وليس حافزاً لعمل ملموس. وفي حين أن الاعتراف "بحق إسرائيل في الوجود" يقف ثابتاً في السياسة الخارجية الأميركية، فإن الاعتراف المتبادل بحق وجود دولة فلسطينية، عاصمتها القدس الشرقية وعلى أساس حدود عام 1967، يبدو بعيد المنال.
الرئيس السابق باراك أوباما، أعرب في تدوينة حديثة على موقع "Medium"، عن الحاجة إلى الاعتراف بحق الفلسطينيين في الحياة في أراضي أجدادهم. وسلط الضوء على النزوح الذي طال أمده والتحديات التي يواجهها القادة الفلسطينيون الذين يسعون إلى تحقيق حل الدولتين.
"هذا يعني الاعتراف بأن الفلسطينيين عاشوا أيضاً في مناطق متنازع عليها لأجيال؛ وأن العديد منهم لم يُهجروا فقط عندما تم تشكيل إسرائيل، بل ما زالوا يتعرضون للتهجير القسري بسبب حركة المستوطنين التي تلقت في كثير من الأحيان دعماً ضمنياً أو صريحاً من الحكومة الإسرائيلية؛ وأن القادة الفلسطينيين الذين كانوا على استعداد لتقديم تنازلات من أجل حل الدولتين لم يكن لديهم في كثير من الأحيان الكثير مما يظهرونه مقابل جهودهم؛ وقال أوباما إنه من الممكن لأصحاب النوايا الحسنة أن يدافعوا عن الحقوق الفلسطينية ويعارضوا بعض سياسات الحكومة الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة دون أن يكونوا معادين للسامية.
إن حالة عدم اليقين المحيطة بالدعم الفعلي لحل الدولتين من جانب الولايات المتحدة ودول غربية أخرى تتناقض بشكل صارخ مع تصرفات إسرائيل في غزة. وشدد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، في ملاحظة ملحوظة، على أن "هجمات حماس لم تحدث بمعزل عن غيرها بل على خلفية".
وقال غوتيريش: "من المهم أيضاً أن ندرك أن هجمات حماس لم تحدث من فراغ"، مضيفاً أن "الشعب الفلسطيني يتعرض لـ56 عاما من الاحتلال الخانق".
قيمة حياة المدنيين
وهنا، مرة أخرى، يجب الاعتراف بقيمة حياة المدنيين، بغض النظر عن خلفيتهم العرقية أو الدينية، ولا ينبغي أن يكونوا أهدافاً لأي طرف في أي صراع مسلح.
ولابد أيضاً من الإجابة على سؤال استراتيجي فيما يتصل بالأهداف البعيدة المدى للغرب وإسرائيل: "هل تؤدي الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين إلى محو نضالهم، أم أنها تؤدي إلى المزيد من عزلة إسرائيل والغرب في المنطقة؟" تشير التداعيات المحتملة، كما أبرزها "توماس ل. فريدمان" في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز يوم 23 أكتوبر، إلى أن الفشل في رسم خط لإسرائيل يمكن أن يعرض للخطر هيكل التحالف الموالي لأمريكا برمته في المنطقة، بما في ذلك الاتفاقيات التاريخية. مثل معاهدة كامب ديفيد للسلام واتفاقيات إبراهيم.
"فمن الممكن أن يؤدي ذلك إلى اندلاع حريق عالمي وتفجير هيكل التحالف الموالي لأميركا برمته والذي بنته الولايات المتحدة في المنطقة منذ أن هندس هنري كيسنجر نهاية حرب يوم الغفران في عام 1973. أنا أتحدث عن معاهدة كامب ديفيد للسلام، اتفاقيات أوسلو للسلام، واتفاقيات إبراهيم، والتطبيع المحتمل للعلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية"، يحذر فريدمان من أن الأمر برمته قد يشتعل.
ومع استمرار المناقشات حول التوصل إلى حل طويل الأمد لهذا الصراع والاحتلال الذي طال أمده، فإن التركيز الفوري يجب أن ينصب على إراقة الدماء المستمرة.
ويظل السؤال الملح هو: "هل سيترجم مؤيدو أعمال إسرائيل وعنفها كلماتهم إلى خطوات ذات معنى لحماية المدنيين الفلسطينيين والأطفال والرضع؟"، في مواجهة العنف الذي لا يمكن تصوره في العالم المتحضر عام 2023، تخضع البوصلة الأخلاقية للغرب للاختبار، ويظل الوعد بعالم متحضر غير مؤكد.