بالرغم من أن الحضارات قامت على مر التاريخ باستخدام المعرفة التراكمية والخبرات المأخوذة عمن سبقها أو عاصرها، لكنها انخرطت أيضاً في المنافسة المحمومة ضد بعضها البعض. وإذا نظرنا إلى الأدلة التاريخية، نجد أن الحضارة اليونانية تأثرت بحضارات بلاد ما بين النهرين والحضارة المصرية وتقدمت إلى مرحلة أخرى بالمعرفة المكتسبة. وقامت روما وبيزنطة ببناء بلديهما على قمم ما توصلت إليه الحضارة اليونانية. وفي الوقت نفسه، ساهمت المسيحية في إنشاء نظام قانوني ونمو روما إلى أن تحولت إلى إمبراطورية. وفي وقت لاحق، عندما ظهرت الحضارة الإسلامية قامت ببناء مجدها كحضارة عظيمة جديدة تماماً، من خلال تأسيس قانونها وفلسفتها وفهمها للعلم، وتفوقت على كل معارف مصر القديمة وروما واليونان والهند الصينية. وبالرغم من اختلاف الثقافات والحضارات التي نشأت خلال عصر الإمبراطوريات بعضها عن البعض، إلا أن كل واحدة منها كانت تحترم الأخرى بسبب أوجه التشابه بين جذورها.
الحداثة الغربية
بعد ظهور الحداثة الغربية وظهور العلم القائم على الملاحظة والتجريب، تحولت النظرة إلى كل حضارة أو ثقافة في التاريخ على أنها دونية لا قيمة لها. وبناءً على ذلك الخط الفكري المجحف تم افتراض أن الحضارة والثقافة المعاصرة الوحيدة المتبقية ذات القيمة والأثر، هي الحضارة الغربية.
ثم تحول هذا الفهم للحضارة إلى سلطة إدارية، وكان هناك بعض الخطوات الواسعة في مجال تقدم العلوم والتكنولوجيا، والتي تم تحويلها إلى وسائل إنتاج أولاً ثم بعد ذلك إلى آلة حرب. وهكذا تحولت الحضارة الغربية إلى ظاهرة عالمية لا تقاوم من ناحية إدارة الدولة والقانون والجيش، وسرعان ما تم أسر جميع شعوب العالم واستعبادهم بواسطة هذه الآلية الغربية الضخمة.
الغرب لم يعد مؤسساً للنظام
عندما ننظر إلى العشرين أو الثلاثين عاماً التي تركناها وراءنا، نرى أن العالم الغربي لم يعد قادراً على إنشاء نظام. ففي الماضي، عندما كان البريطانيون يذهبون إلى أية بقعة من العالم، كان يُعتقد أنهم أقاموا النظام بطريقة أو بأخرى. لكن الأمر اختلف في عالم اليوم، ولم تعد الحضارة الغربية التي تمثلها الولايات المتحدة، قادرة على إنشاء نظام. وقد رأى الجميع ماذا حلَّ بالعراق الذي احتلته الولايات المتحدة قبل 20 عاماً وفي أفغانستان التي فرت منها وتركت الذين يثقون بواشنطن يسقطون من أجنحة الطائرات.
زمن الإسلام من جديد
مما لا شك فيه أن سيطرة الحضارة لها دورة في الحياة كما صعود أمجاد الدول والامبراطوريات ومن ثم أفول نجمها. ومثلما جاءت الحضارة الغربية وأخذت مكانها عندما انحسرت الحضارة الإسلامية، يبدو اليوم أنه لا يوجد بديل آخر غير الإسلام لتولي قيادة تتابع الحضارة. فالإسلام هو الخيار الأفضل لأنه ظل قادراً على حماية جوهر قيمه ووحدانية الإله بناءً على الوحي الأصلي.
والغربيون يدركون خطورة هذا البديل، لذلك نجدهم يحاولون تقويض المستقبل المشرق من خلال ربط الهوية الإسلامية بالإرهاب بشكل مستمر، ومحاولة دفع الناس لدعم الإرهابيين.
تركيا تأخذ زمام المبادرة
في ظل الظروف الحالية للعالم تصعد تركيا تدريجياً مع كل خطوة تخطوها، وهي تثبت تفوقها في جميع المجالات التي تواجه فيها الدول الغربية تقريباً. وبطبيعة الحال، فإن مكتسبات تركيا التاريخية وعلاقاتها العميقة مع الإسلام والموقع الجغرافي السياسي والقوة العسكرية للبلاد، تمنحها قدرة خارقة في العديد من المجالات، على عكس البلدان الإسلامية الأخرى.
وليس هدفي هنا الحديث عن التفوق المادي أو الروحي لتركيا، ولكن للتأكيد على أنه في عالم لم تعد فيه العدالة متاحة، فإن المساواة في الدخل أصبحت حلماً بعيد المنال، والتكتلات الغنية ومتعددة الجنسيات تمتص دماء شعوب العالم. وفي الوقت الذي لم تعد تستطيع فيه حتى الدول الأوروبية تقديم الرفاهية لشعوبها، فإن تركيا هي الدولة الوحيدة التي قد تصبح رائدةً في تأسيس نظام قانوني جديد ودستور جديد ومساواة جديدة.
إضافةً إلى أن تركيا دولة قومية وطنية، ويمتد تأثيرها من الشرق الأوسط والقوقاز في الشرق إلى داخل أوروبا في الغرب، ومن روسيا في الشمال إلى أفريقيا في الجنوب.
الغرب مقابل الأفرو-آسيا
في بداية هذا القرن، كان الناس من العالم المتخلف اقتصادياً يفضلون البلدان الأوروبية للعيش في بيئة من الرخاء والديمقراطية المثلى، وكانوا يهرعون نحو العواصم الأوروبية. وبينما كانت الدول الغربية تدير الديمقراطية وتحافظ على حياة شعوبها في رخاء، كانت تسفك الدماء في البلدان الفقيرة في إفريقيا وآسيا. ولم يكن ازدهار باريس أو لندن أو نيويورك صالحاً أبداً لنقله إلى مستعمراتهم.
أما اليوم، فصار الكثير من شعوب المناطق الجغرافية المجاورة لها يفضلون العيش في تركيا، بما في ذلك مواطنون من الهند والصين وأفريقيا والبلقان وروسيا وأوكرانيا وأمريكا اللاتينية. وفي هذه الحالة، يجب أن يكون الدستور والقانون ورؤية حقوق الإنسان التي ستطرحها تركيا رؤية عالمية لا تشمل أبناء الدولة القومية فحسب، بل تلهم العالم بأسره أيضاً. وإذا ما قام حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا بتقييم النقاشات الأخيرة بشأن الدستور والقوانين من هذه الزاوية، فيمكن أن يقود تركيا إلى إلهام البشرية جمعاء من خلال الإصلاح القانوني الثوري.