يكاد الوعي السياسي للأمة التركية يكون متفرداً إذ يندر وجود أمة أخرى تتمتع بوعي مماثل لها، ولذلك تظهر السياسة الداخلية في تركيا بنية ديناميكية ويتحرك الرأي العام باستمرار حسب أداء الحكومات وخطاب المعارضة.
ومؤخراً ومنذ 4-5 أشهر على وجه التحديد، بدأ الشعب التركي ينتبه ويتفاعل مع ما تقوله المعارضة وما يناقشه تكتلها المعروف بـ "طاولة الستة". ورغم أن حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركياً يمسك بزمام السلطة منذ 20 عاماً، لكنه لا يزال الحزب الرائد وقد حصل على ما يقرب من 40% من الأصوات. ومع ذلك، فالبقاء في السلطة لفترة طويلة والسعي الضمني للناخبين لخلق توقعات حول ما إذا كانت أحزاب المعارضة ستظهر كفاءتها أم لا، قد أدى في بعض الأحيان إلى تقريب أصوات أحزاب المعارضة من مستوى شعبية الحزب الحاكم.
واليوم، بدأ الحزب الحاكم يستعيد شعبيته بعد استقرار الاقتصاد مرة أخرى وبعد أن أظهرت أسعار السوق ثباتاً الشهرين الماضيين. ولم يعد يتغير سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل الليرة التركية إلا إذا تغير سعره مقابل العملات الرئيسية الأخرى في الأسواق الدولية، وصار تدفق الأموال في الاقتصاد ثابت.
وهناك تغيير آخر حصل في تركيا ولبى المطالب باستجابة كبيرة، ففي عام 2019 وأثناء إجراء الانتخابات المحلية كانت جميع استثمارات البنية التحتية في البلاد مكتملة وكان الناس يدركون جيداً أن البنية التحتية باتت موجودةً بالفعل لأنهم كانوا يستخدمونها. لذلك، تحول دافع الناخبين إلى مطالب فردية أكثر من استثمارات باهظة الثمن في البنية التحتية، فطالبوا بإدخال تحسينات على المكاسب الشخصية مثل الرواتب والقضايا الصحية ودعم الطلاب والمنح الدراسية والدعم الاجتماعي للفقراء.
رسالة الناخبين
وتواصل حكومة حزب العدالة والتنمية التعامل بشكل أساسي مع مشاكل البلاد، وقد أظهرت سلوكاً متقدماً في الإدارة لا سيما في العلاقات الدولية. كما حل حزب العدالة والتنمية بدقة العناصر الأساسية في رسالة الناخبين والخاصة بالمطالب الفردية في الانتخابات السابقة. وإذا ما راجعنا أداء الحكومة بعد الانتخابات، نلاحظ أن الزيادات المنتظمة في الرواتب وارتفاع الدعم الاجتماعي وتعديل الحد الأدنى للأجور بشكل واقعي وفقاً للقوة الشرائية، كانت من ضمن العوامل التي أعادت تأكيد ثقة الجمهور في الحكومة تدريجياً.
وتتوافق الفترة التي تحدث فيها كل هذه التطورات مع فترة حدثت فيها سلسلة من الكوارث العالمية، من شأن أي منها أن يغير النموذج الدولي وحده، مثل الأوبئة والصراعات الإقليمية والحروب وانقطاع سلسلة التوريد والغذاء وأزمات الطاقة. وبطبيعة الحال لا بد أن تتأثر السياسة الداخلية حتماً بالسياسة الخارجية. وبدأ دور الرئيس رجب طيب أردوغان بشكل خاص في الصراع الأوكراني الروسي في التأثير على السياسة الداخلية خطوة بخطوة. وبينما تواجه البلدان المتخلفة الفقر والجوع، أثر حل أردوغان لأزمة الحبوب بين أوكرانيا وروسيا على السياسات المحلية.
زيارات سمرقند ونيويورك
أدى حضور الرئيس أردوغان للقمة الثانية والعشرين لرؤساء مجلس الدولة لمنظمة شنغهاي للتعاون وخطابه في الاجتماع السنوي السابع والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، إلى زيادة التأثير بشكل كبير على السياسة الداخلية. ونظراً لأن تركيا نشطة في العديد من المجالات في إفريقيا وآسيا الوسطى وأوروبا، يتخذ أردوغان خطوات ناجحة في العلاقات الدولية، وهذا كله يؤثر إيجاباً على تحول تعاطف الناخبين لصالح الحكومة في البلاد. وقد كان لتركيا ولأردوغان بالذات في الآونة الأخيرة تأثير أكبر في حل بعض المشاكل، من الأمم المتحدة وأمينها العام أنطونيو غوتيريش.
بالإضافة إلى كل ذلك، تصاعد التأثير الإيجابي أكثر مع مبادرة الإسكان الميسور التكلفة التي تنفذها وكالة بناء المساكن "توكي" الحكومية، ومن الآن فصاعداً سنرى أن الحكومة وكما فعلت في السنوات الخمس عشرة الماضية، ستقود السياسة الداخلية والخارجية وتعود بنتائج تدفع أحزاب المعارضة إلى الانشغال بمناقشتها. وبينما تتزايد أصوات حزب العدالة والتنمية تدريجياً، ستستمر شعبية جميع أحزاب المعارضة في الانخفاض حيث تلاشى الاهتمام بحزب الشعب الجمهوري بعد الوميض الذي حققه قبل بضعة أشهر.
وبرأيي، إذا استمرت هذه الموجة لشهرين آخرين، فإن الأحزاب السياسية ستقترب من نفس مستوى التصويت الذي حصلت عليه في الانتخابات السابقة، والتي تعد بمستقبل أكثر إشراقاً للحزب الحاكم.