بعد ستة أسابيع فقط من المحاولة الانقلابية في الخامس عشر من تموز/يوليو الماضي، تقف تركيا اليوم للقيام بعملية عسكرية ضد تنظيم داعش الإرهابي في سوريا، وتفتتح جسر اسطنبول الثالث الواصل بين ضفتي البوسفور، كما احتفلت بعيد النصر في ذكرى المعركة الكبيرة التي خاضتها في الثلاثين من شهر أغسطس عام 1922، وحازت بعدها على الاستقلال من القوى الأجنبية. إن هذا النسق من الواقع المعاصر والتاريخ والرمزية يجسد حقيقة المرونة التركية غير المرتقبة.
فبينما يقف الغرب عاجزاً عن استيعاب حجم ووقع المحاولة الانقلابية التي خاضها أتباع فتح الله غولن، تواصل تركيا احتفالاتها بالانتصار على الانقلابيين بشتى طرق. وحالة الطوارئ لم تدمر الوضع الاقتصادي، أو تعطل حركة الحياة اليومية. حتى أن حالة الإجماع التي أفرزها الانقلاب قرّبت المجموعات السياسية المتنافرة إلى بعضها البعض. فسواء في السياسة أو الاقتصاد، تبدو تركيا قوية ومتحدة اليوم، أكثر من أي وقت مضى.
تركيا، التي تعد صاحبة واحدة من أسرع الاقتصادات نمواً في العالم، تمكنت من التعافي بسرعة من الصدمة الأولية بعد الانقلاب. فمنذ منتصف الشهر الماضي، ارتفعت قيمة الليرة التركية وأسواق الأسهم، بفضل استمرار الاستثمارات الأجنبية من دون تأثر. كما أبدى المواطنون ردة فعل مسؤولة وواعية من خلال بيعهم لما يزيد عن عشرة مليارات دولار للاستثمار بالليرة التركية ودعم اقتصاد البلاد، كما لو كانوا يريدون الانتقام من العابثين بمستقبل اقتصاد البلاد.
وواصلت تركيا تطبيق مبادراتها في السياسة الخارجية كما كان مخططاً لها من قبل، على الرغم من التوقعات بحدوث حالة من عدم الاستقرار. كما شهدت عملية تطبيع العلاقات مع روسيا وإسرائيل تقدماً بعد زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى بيتيرسبرغ في التاسع من أغسطس، وبعد تصديق البرلمان التركي على الاتفاق التركي الإسرائيلي في العشرين من الشهر نفسه. وفي الثامن والعشرين من الشهر، استؤنفت رحلات طيران الشارتر بين تركيا وروسيا، التي تنقل على متنها عشرات الآلاف من السياح ورجال الأعمال بين البلدين. كما أن عملية تطبيع العلاقات مع اسرائيل لا تزال جارية على قدم وساق. ومن المتوقع أن تقوم البلدان بتعيين سفراء لهما بالتبادل لاستئناف العلاقات الدبلوماسية الكاملة، بعد دفع التعويضات لأسر الضحايا الأتراك على سفينة مافي مرمرة، بحسب ما ينص الاتفاق. كما سيشارك أردوغان في قمة العشرين في الصين في الفترة ما بين الرابع والخامس من سبتمبر/أيلول المقبل.
وفي أقل من ستة أسابيع على المحاولة الانقلابية، أطلقت تركيا عملية درع الفرات لتحرير مدينة جرابلس من قبضة تنظيم داعش الإرهابي. وتهدف العملية إلى تحرير الحدود التركية من المجموعات الإرهابية كلها، بما في ذلك داعش وتنظيم "ب ي د". وعلى الرغم من الاتفاق على انسحاب تنظيم "ب ي د" من مدينة منبج والتراجع إلى شرق نهر الفرات. إلا أن التنظيم الإرهابي يسعى إلى التقدم إلى المناطق التي ينسحب منها داعش، لفرض سيطرته على المزيد من الأراضي. تركيا تدافع عن وحدة الأراضي السورية وتقف ضد الدعاية التي يروجها تنظيم بي كا كا وأتباعه في الغرب، ولن تسمح بنشوء دويلة يقودها بي كا كا على حدودها.
ولا بد من القول أن تركيا ليس لديها مشكلة مع أكراد سوريا، كما ليس لديها مشكلة مع أكراد تركيا والعراق. المشكلة تنحصر بتنظيم بي كا كا الذي يضطهد ويقتل الأكراد تماماً مثلما يقتل المواطنين الأتراك وقوات الأمن. تنظيم بي كا كا و"ب ي د" يستخدمان الحرب في سوريا لإنشاء دولة إرهابية في سوريا وفرضها كأمر واقع.
ومع نجاح الجيش السوري الحر في دخول وتحرير مدينة جرابلس، وإجلاء تنظيم داعش الارهابي عنها، بطُلت أسطورة "ب ي د" بكونها الجهة الوحيدة الفعالة في الحرب على داعش. كما أثبتت عملية درع الفرات أن الدعم الحقيقي لمجموعات المعارضة المعتدلة ومن بينها الجيش السوري الحر سيمكنها من الحرب على داعش والنظام السوري في الوقت ذاته، وتطهير المناطق من وجودهما. لذلك فإن على الولايات المتحدة أن تراجع سياسة دعمها لتنظيم "ب ي د" الذي تغض فيه الطرف عن أي اعتبارات أخرى. كما يجب أن تفتح عينيها على الضرر الذي يسببه هذا الدعم للنسق الاجتماعي والعرقي في سوريا.
وعلى الصعيد الداخلي، تقف تركيا في موقع أقوى من ما كانت عليه قبل الانقلاب. الشعب يريد العدالة وليس الانتقام من الانقلابيين. ويطمح لرؤية المبادئ المبنية على الصلاحية والشفافية والقدرة والثقة حاكمة للعلاقات في بنية الدولة المدنية، وهو ما انتهكته سياسات تنظيم غولن سعياً منها للسيطرة على الدولة. إن العودة إلى هذه المبادئ والمعايير مهم للغاية لضمان سلامة مؤسسات الدولة من محاولات السيطرة التي قام بها تنظيم غولن أو غيره من الجهات. كما أنها مهمة للغاية لقطع الطريق على أي محاولة انقلابية قادمة.
وبنظرة موضوعية، يمكن القول إن أي محاولة انقلابية كفيلة بإشاعة حالة من عدم الاستقرار في أي بلد كان، فضلاً عن تدمير الاقتصاد وتقسيم المجتمع. إلا أن ما حدث في تركيا كان العكس تماماً، حيث أظهرت مرونة تركيا. الشعب التركي يحتفي بهذه المرونة كمصدر للقوة والحيوية. ويجب أن يشاركهم أصدقاء تركيا هذا الاحتفاء.