وكما أعلنت صحيفة واشنطن بوست في افتتاحيتها، فإن الديمقراطية الأميركية تتصدع. ويمكن للمشاكل المتعلقة بالنظام السياسي الأمريكي، أن تبدو ساحقة ومستعصية على الحل. وخلافاً لما تأمله النخب الأميركية، يبدو أنه لا يوجد شيء يمكن أن يساعد في إصلاح المؤسسات التي يمكن أن تعيد البلاد إلى مُثُلها التأسيسية أمام غزو المحافظين الجدد والليبراليين الجدد، لأن وجودهم بحد ذاته يكفي لاعتبارهم "كابوساً أمريكياً" كما تصفهم البروفيسورة ويندي براون، المنظرة السياسية الأمريكية في كلية العلوم الاجتماعية في معهد الدراسات المتقدمة في برينستون. ومع ذلك، فإن كفاحهم المستمر للسيطرة الكاملة على القيادة البيروقراطية للجهاز الحكومي منذ أيام الرئيس الأمريكي الثالث والأربعين جورج دبليو بوش، لم يضعف الديمقراطية الأمريكية فحسب، بل أدى أيضاً إلى إنشاء خطة الرئيس السابق دونالد ترامب "لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى"، كحركة يحاول فيها أعضاء "جو" النظاميون المضللون، استعادة الحكومة من أيدي النخب المشاكسة.
وللأسف، فإن البيت الأبيض والبنتاغون باتت ساحات قتالٍ بين المحافظين الجدد والأحرار الجدد، ويبدو أن المحافظين الجدد لهم اليد العليا، ما يجبرنا على التنقيب في هذا الموضوع السيئ وهو دعم عصابة المحافظين الجدد الخطة الصهيونية لمحو فلسطين من على وجه الأرض، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة مجرمةً مشاركةً في الإبادة الجماعية الإسرائيلية للشعب الفلسطيني.
سياسة القتل
إن سياسة الأرض المحروقة التي تنتهجها إسرائيل لم تكن مصممة فقط لإلحاق دمار شامل بحماس من أجل مسحها "من على وجه الأرض"، بل في الواقع، كان المقصود منها محو آخر الحدود المتبقية التي خلقت دولة تبلغ مساحتها نصف مساحة لونغ آيلاند. إن سياسة "القتل والسرقة والاحتلال" التي تنتهجها إسرائيل لم تترك أي شيء يمكن تسميته "الأرض الفلسطينية"، بما في ذلك القدس الشرقية. ويمكن لأي رجل يهودي يرتدي القلنسوة اليهودية ويحمل مدفعاً رشاشاً أن يدخل إلى أي حي ويطرق باب بيته، بل يختار العقار الذي يحبه ويطلب من صاحبه الرحيل، وإذا لم يغادره، يقتل "المستوطن" صاحب المنزل لأنه هدده، وتدخل قوات الجيش الإسرائيلي الشهيرة إلى المكان، وتُخرج الجثة وتعتقل العديد من العرب الآخرين أيضاً، وهكذا يتم إرجاع قطعة أخرى من أرض الموعد إلى مالكها الشرعي وفقاً لهذا الفصل أو ذاك من التلمود أو أي نص مقدس آخر.
لقد انقلبت الموازين بالفعل في اليوم الثاني من "الحرب" التي شنها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ضد حماس بالنسبة للجمهور ذي التفكير الحر في العالم، وتحولت وفق الرؤية الصحيحة وهي أن نتنياهو لم يكن يحاول إنقاذ أولئك الذين اختطفتهم حماس، إنما أطلق "عملية محو فلسطين". وهذا ما كانت عصابة المحافظين الجدد تنتظره منذ اليوم الذي وضع فيه بوش العالم في موقف محرج، في خطابه أمام الجلسة المشتركة للكونغرس في 20 سبتمبر/أيلول 2001، عندما قال: "إن الولايات المتحدة لا تزال في حالة تأهب لأن لها الحق في الدفاع عن نفسها، فإما أن تكون معنا أو تكون مع الإرهابيين". وفي الآونة الأخيرة، كرر وزير الدفاع الزائر لويد أوستن، أن إسرائيل لها الحق في حماية المدنيين في تل أبيب، وأن الولايات المتحدة لديها واجب أخلاقي يتمثل في تقديم "دعم لا يتزعزع لأمن إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها".
وهذه هي الزيارة الثانية التي يقوم بها أوستن إلى إسرائيل منذ بدء الصراع. وقد زار الزعيم الآخر لمؤامرة المحافظين الجدد، وزير الخارجية توني بلينكن، إسرائيل 3 مرات منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول. وجاءت زيارة كليهما لنتنياهو وسط قلق متزايد بشأن ارتفاع عدد القتلى في غزة وتدهور الظروف التي يعيشها سكانها الذين يزيد عددهم عن مليوني نسمة.
لماذا يعتبر تاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأول علامة فارقة؟
وكما لو كانت أهداف تل أبيب مستوحاة من غارة 7 أكتوبر/تشرين الأول واختطاف ما يقرب من 200 من العسكريين والمدنيين الإسرائيليين على يد حماس، قامت القوات الجوية والمدفعية والدبابات الإسرائيلية بقصف غزة بشكل عشوائي. وتظهر مقاطع فيديو حماس مقتل عدد من الرهائن في القصف الإسرائيلي. لقد أصيب العالم كله بالذهول عندما قتل الجنود الإسرائيليون 3 رهائن بعد أن لوحوا بعلم أبيض وصرخوا بالعبرية بأنهم لا يشكلون أي تهديد. وصار العالم يدرك الآن أن إسرائيل لديها عقيدة عسكرية تقضي بقتل الجنود الإسرائيليين الأسرى بدلاً من تركهم كرهائن. و يُعرف هذا التوجيه باسم "بروتوكول هانيبال"، وبموجبه، أمرت حكومتهم الجنود الإسرائيليين بقتل أي جندي إسرائيلي يأسره العدو وفق مبدأ: "الجندي الميت خير من الجندي الأسير".
كما أن ما يسمى "وقف إطلاق النار الإنساني" السابق لم يكن وقف إطلاق نار إنسانياً ولا حقيقياً! وعلى ما يبدو، كان على نتنياهو أولاً أن يذعن لضغوط الولايات المتحدة، التي كان عليها بدورها أن تذعن لرد فعل الناس على مستوى العالم. وثانياً، كان جيش الدفاع الإسرائيلي بحاجة إلى إعادة تجميع قواته. وثبت أن الدعوة التي أطلقها وزيرا خارجية بريطانيا وألمانيا إلى التوصل إلى "وقف مستدام لإطلاق النار"، والذي يتطلب إلزام حماس بإلقاء أسلحتها، ليست صادقة أو مستدامة. فهم ببساطة يؤيدون توسيع سياسة الاحتلال والاستيطان الإسرائيلية في غزة.
ويتحدث الرئيس الأمريكي جو بايدن أيضاً بصوت عالٍ حول هذه القضية. ويقول إن نتنياهو بحاجة إلى تغيير نهجه، لكنه لا يستطيع ذلك لأن "حكومته تجعل من الصعب عليه التحرك". ويتم تقديم هذا الخداع الواضح على أنه صدع بين الولايات المتحدة وإسرائيل. والحقيقة أنه ليس كذلك، فمن ناحية، يقول بايدن إن الولايات المتحدة لا تزال تريد حل الدولتين أي دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، لكن إسرائيل لا تريد ذلك، ومن ناحية ثانية يقول إنه يدعم الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة.
فهل يستطيع بايدن ألا يرى ما يراه ملايين غيره؟ إن ما يسمى "الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة" ليست عسكرية بل سياسية لإبادة الأشخاص اللازمين لإنشاء الدولة الثانية في المنطقة، أي الفلسطينيين. وكل كلمة يقولها بايدن فيما يتعلق بالمجازر الإسرائيلية في غزة، تدفع أكثر باتجاه إغراق الولايات المتحدة في قاع المعايير الإنسانية. ألا يستطيع بايدن أن يرى أن ادعاءات إسرائيل بشأن "الاغتصاب والعنف الجنسي الذي ارتكبته حماس خلال هجومها الإرهابي على إسرائيل"، هي مجرد أكاذيب ملفقة من قبل الحكومة نفسها التي يعتقد بايدن أنها تمنع التوصل إلى حل سلمي؟ لكن بحسب بايدن، إذا لم تدين حماس على ذلك، فأنت تدعم إرهابهم.
والآن، يدعم بايدن الحكومة الإسرائيلية من خلال تشكيل تحالف دولي للرد على هجمات الحوثيين التي عطلت الشحن في البحر الأحمر، وهم المشتبه بهم المعتادون في هذا التحالف، لكن المرء يتساءل عما كانت تفكر فيه البحرين عندما انضمت إليهم. نعم، نحن نعلم أن كل رئيس أمريكي، بغض النظر عن حزبه السياسي، يحافظ على الاعتقاد بأن إسرائيل تجاري الولايات المتحدة من حيث الالتزام بحماية حقوق الإنسان والتعددية والقيم الديمقراطية والقضاء المستقل. لكن نتنياهو وحكومته لا يلتزمان بهذه القيم الأميركية. إن الدعم الأمريكي لمذابح الإبادة الجماعية في غزة، والتي سيعقبها قريباً تطهير عرقي للشعب الفلسطيني مما يفترض أن تكون فلسطين، يُغرق الولايات المتحدة في الهاوية التي لا تزال إسرائيل تتخبط فيها بشدة منذ الحرب التي بدأتها في غزة.
الواقع أن نتنياهو لا يلقن "حماس درساً لن تنساه"، لأنه حتى الآن، لم يستطع أن يمس شعرة من رأس حماس. لقد قتل حتى الآن أكثر من 20 ألف شخص بريء، وذبح 8000 طفل صغير، وشوه الاحترام الدولي القليل الذي كانت تحظى به إسرائيل، فضلاً عن أنه هدم ثلاثة أرباع المباني في غزة. لكن حماس ما زالت موجودة، وسليمة تقريباً.
والآن، يتعين على قلب بايدن الصهيوني أن ينزف بسبب مصداقية بلاده أيضاً.