تواصل الدول الأوروبية التحذير بأن استمرار التوسع الاستيطاني الإسرائيلي سيضر بمشروع إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وتواصل الأمم المتحدة كذلك حث إسرائيل على إلغاء عمليات الإخلاء القسري في القدس الشرقية المحتلة، وتصفها بأنها ترقى إلى "جرائم حرب". ولكن لماذا لا نسمع أي اعتراض جاد من الدول العربية المجاورة؟
وفي مقالته على قناة الجزيرة، كتب الصحفي المقدسي "جلال أبو خاطر" متأسفاً على ما آل إليه الوضع العربي:
"بالنسبة لنا نحن المقدسيون، من المثير للغثيان أن نسمع المعلقين يتكلمون عن موجة العنف، ويدعون إلى العودة إلى الهدوء ويفرطون في استخدام تعبير كلا الجانبين كلما اندلع العنف".
وتعبير "كلا الجانبين" هو واحد من العديد من الموروثات الشائنة التي خلفها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. حين قال بشكل مخادع بعد اندلاع أعمال عنف في تجمع للنازيين الجدد والبيض في "شارلوتسفيل" بولاية فيرجينيا عام 2018 ، إن هناك "أناس طيبون للغاية من كلا الجانبين"!
ويستخدم معظم الناس تقريباً هذا التعبير الآن في وسائل الإعلام خصوصاً على الجانب الغربي من نهر الأردن عندما يصفون "الأحداث" في القدس. وكأن الاحتلال الإسرائيلي للقدس أصبح أمراً طبيعياً، وأي مقاومة للأجهزة الأمنية والقضائية غير الشرعية لهذا الاحتلال يعد إرهاباً من قبل وسائل الإعلام.
حتى إن بعض وسائل الإعلام في تركيا لا سيما تلك المعارضة لإدارة أردوغان، تسارع إلى تصنيف الشباب الفلسطينيين بأنهم "إرهابيو حماس" لدرجة أن صحيفة "جيروزالم بوست" الإسرائيلية تبدو أقل تحيزاً مقارنة ببعض صحف إسطنبول.
نظام فصل عنصري نموذجي
إن ما تقوم به إسرائيل في كافة الأراضي الفلسطينية بشكل عام وفي القدس على وجه الخصوص، لا يمكن أن يوصف بأدق من نظام فصل عنصري نموذجي وقد تطور تدريجياً وأصبح لا يميز ضد العرب فقط بل صار قاتلاً لهم.
قد يتفهم المرء أو قد يلقي باللوم على نظام نقل المعلومات الإخباري الإمبريالي القديم الذي لا يزال يغذي بعض مصادر الأخبار التركية وغيرها من مصادر الأخبار الغربية حيث تنتقل الأخبار أولاً من الشرق الأوسط إلى لندن أو باريس، ثم تنتشر لاحقاً إلى عواصم أوروبية أخرى. لكن لماذا تبدو وسائل الإعلام العربية والإيرانية وكأنها قد تخلت بالفعل عن أشقائها الفلسطينيين؟
ولماذا لم يذكر أي مصدر عربي باستثناء وسائل الإعلام الأردنية، تقرير منظمة "بي تسيليم" الإسرائيلية لحقوق الإنسان حول تدهور الأوضاع في الأراضي العربية التي تحتلها إسرائيل. إذ صرحت المجموعة الإسرائيلية أنه يوجد الآن "نظام سيادة يهودية" في البلاد. مؤكدةً أن هذا الحال تكرست خاصة بعد أن وقعت عدة دول عربية "صفقة القرن" مع إسرائيل وباتت هذه الدول العربية تحصل على مساعدة التطعيم من إسرائيل، وقد قام بعضها بالفعل بتلقيح جميع مواطنيها ضد الوباء.
ولو فتحنا أي موقع إخباري لدولة الإمارات العربية المتحدة سنرى تغطية الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في الأراضي العربية المحتلة باعتبارها حوادث أمنية عادية. ولا توجد تغطية للكارثة الإنسانية التي خلفها فيروس كورونا في الأجزاء العربية من فلسطين ولا أي أثر لما يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي من فظائع هناك، إذ أن إسرائيل لم تسمح للسلطة الفلسطينية بوضع خطة شاملة لاتخاذ إجراءات وقائية.
كما تحتجز إسرائيل العمال والموظفين الفلسطينيين الذين يسعون لدخول إسرائيل للذهاب إلى أعمالهم في حشود كبيرة لساعات طويلة. وبينما تطبق السلطة الفلسطينية قواعد السلامة الوقائية في حفلات الزفاف وصلاة الجماعة وتطلب من الناس الحفاظ على مسافات التباعد الاجتماعي في مناطق الاحتجاز الإسرائيلية، يقوم مسؤولو الأمن الإسرائيليون بدفع العمال الفلسطينيين إلى مناطق انتظار ضيقة وحشرهم فيها.
"إن لم أسرقه أنا فسيسرقه شخص آخر":
أصدرت المحاكم الاسرائيلية أحكاماً مشينةً تقضي بطرد 500 فلسطيني من منازلهم التي ظلت مملوكةً لهم لأجيال، بهدف تسليمها إلى المستوطنين اليهود، ومع ذلك تداولت العديد من الدول العربية أخبار هذه الأحكام الجائرة على أنها "كلا الجانبين يصعدان العنف". وقد شاهدنا جميعاً على شاشات التلفزيون وفي مواقع التواصل تلك المحادثة العجيبة بين المرأة الفلسطينية والمستوطن اليهودي، حين واجهت "منى الكرد" وهي من سكان حي الشيخ جراح، المستوطن اليهودي قائلة إنه يسرق منزلها، ورد الرجل السمين بمنطق أمريكي: "إذا لم أسرقه أنا فسيسرقه شخص آخر".
وفي اليوم التالي، تناقل أشقاؤها العرب ومن يدّعون الإسلام الخبر في العديد من الدول العربية ببساطة على أن كلا الجانبين يصعّد التوتر، وأن الفلسطينيين يقاومون تنفيذ أحكام المحكمة!
وفي تقريرها الأخير قالت منظمة حقوق الإنسان الدولية عن إسرائيل "لقد تجاوزت إسرائيل العتبة" وهي الآن "ترتكب جرائم ضد الإنسانية من الفصل العنصري والاضطهاد ضد الفلسطينيين". ولكن ليس علينا أن نتنبأ بسماع هذا الخبر في نشرة الأخبار المسائية في الرياض لأنه لم يحدث، فالأشقاء على ما يبدو قد هجروا إخوتهم الفلسطينيين وخذلوهم حقاً.