لقد خلقت الانتخابات الرئاسية لعام 2023 في تركيا، التي ستجمع المرشحَين الرئاسييَن الأساسييَن، حالة من التعبئة الفكرية والأيديولوجية الكبيرة. ومع التمييز بين المتنافسين بتعبير "نحن" و"هم" الذي يشكل العمود الفقري للسياسة، يصبح الاستقطاب أمراً لا مفر منه. وفي الواقع، أصبح الاستقطاب أكثر حدةً وانتشاراً بسبب النظام الرئاسي الذي أدى إلى ظهور تحالفات، بينما توحد تحالف الأمة حول "معاداة أردوغان" بعد عقدين من الزمن.
واليوم، يكاد رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال قلتشدار أوغلو ورئيسة حزب جيد ميرال أقشنر، ينظران إلى حكومة حزب العدالة والتنمية على أنها "شر خالص". ولا يخفى على أحد أن الأول حطم رقمه القياسي في إلقاء اللوم على القيادة السياسية في البلاد في كل الكوارث، فيما تحذو رئيسة حزب جيد حذوه بإعلانها فجأة أننا "نقترب من نهاية هذا الشر" من خلال تصريحاتها حول الفيضانات في شانلي أورفا.
إن خطاب "صنع التاريخ" مفهوم، لكن هذا التصور الراديكالي لـ "الشر"، يسلط الضوء على مدى التهميش الذي أصبحت عليه مشاعر المعارضة وخطابها السياسي. ففي الآونة الأخيرة، زعم أحمد داود أوغلو أن "تركيا يمكن أن تتحول إلى كوريا الشمالية" إذا فاز تحالف الشعب في الانتخابات المقبلة، من خلال مبالغته في تصوير "حكم الرجل الواحد" إلى درجة التطرف.
ويقوم الأكاديميون والشخصيات الإعلامية المؤيدة للمعارضة حالياً، من الذين يبذلون كل ما في وسعهم للمساعدة في هزيمة الرئيس رجب طيب أردوغان، بمحاولة أخيرة لـ "صقل" حججهم.
فهم يطبقون بالفعل أي شيء كتبه علماء السياسة عن "الشعبوية" و"الاستبداد" على تركيا. بل تجرأ البعض على المجادلة بأن حكومة حزب العدالة والتنمية أسوأ من عهد الحزب الواحد. ووصف آخرون قلتشدار أوغلو بأنه "قوة سياسية إيجابية" في مواجهة تحالف الشعب بما في ذلك أردوغان، كقوة سياسية "سلبية". في الوقت نفسه، حاول آخرون ترهيب الناخبين بالقول إن تركيا ستكون بمثابة "المستنقع الراكد" بالنسبة لأوروبا والعالم إذا فازت الحكومة في الانتخابات المقبلة.
ومن شأن هذا الوصف أن يحول الناس الذين من المفترض أن يطوروا أفكارهم ويحللوا التطورات، إلى مقاتلين عدوانيين. وهكذا فإن بعض الشخصيات المؤيدة للمعارضة تجعل الانتخابات المقبلة مسألة حياة أو موت. وعلاوةً على انتقاد الحكومة لبقائها لفترةٍ طويلة، يزعمون الآن أن تركيا لديها فرصة أخيرة للاختيار بين الهلاك والتحرر.
ثنائية "الخير والشرً
يتفق الجميع على أن تركيا ستجري أهم انتخابات في تاريخها الحديث يوم 14 مايو/أيار. ومن المفهوم أن يقوم السياسيون بوضع بعض النقاط لإبقاء الناخبين في المنطقة الرمادية بين الخوف والأمل. كما أنه من الطبيعي تماماً للمعارضة أن تتهم الحكومة بسوء الإدارة، وأن تجادل الحكومة بدورها بأن المعارضة المجزأة لا يمكن أن تحكم بلد كتركيا.
ومع ذلك، فإن حشد المثقفين أيديولوجياً المدفوعين بالغضب والنقمة، يخلق ازدواجية مؤقتة بين "الخير" و"الشر" لإفقار البلاد. وغني عن القول إن رؤيتين مختلفتين للمستقبل ستتصادمان في الانتخابات المقبلة. وبناءً عليه، يحق للناخبين أن يسألوا عما ينوي كل تحالف فعله لمعالجة المشاكل الملحة. ومن الواضح أن حالة الاقتصاد التركي وإدارة الكوارث والمخاطر وقضايا السياسة الخارجية الرئيسية تحتل أكبر حيز من الاهتمام.
كما يمكن للمحللين والأكاديميين تقديم توصيات للسياسيين أيضاً، لكن الازدواجية المتطرفة بين "الخير" و"الشر" التي تشيع بشكل مبالغ به في الأوساط الأكاديمية ووسائل الإعلام، تهدد بفصل البلاد عن الواقع. ولا يمكن على وجه التحديد، تفسير أصوات كثير من الأشخاص الذين ينتخبون أردوغان، من خلال ربط المعارضة بـ "الخير" المتمثل بالديمقراطية والأمل والحكومة الحالية بـ "الشر" المتمثل بحكم الرجل الواحد. وفي هذه الحالة، قد يميل المرء إلى الاعتقاد بأن الحكومة تكسب دعم الناس من خلال الخوف أو أن المعارضة لا تقدم الأمل الكافي.
كذلك من المحتمل أن يتسبب ذلك في تفويت المراقبين لنقطة مفادها أن أردوغان يقدم الأمل الأكبر للناخبين، بناءً على عقدين في السلطة وإنجازاته في العديد من المجالات، بما في ذلك السياسة الخارجية والإغاثة من الزلزال.