ليست المطالب المتطرفة هي الدافع وراء سياسة أنقرة الخارجية، بل ما يحتم عليها من ضرورة جيوسياسية لحماية أمنها ومصالحها.
وقد انضممت يوم الأربعاء إلى مجموعة مميزة من المتحدثين، لمناقشة السياسة الخارجية التركية في منتدى "تي آر تي" الذي أقامته القناة الإنجليزية لهيئة الإذاعة والتلفزيون التركية الوطنية الأسبوع الماضي. وخلصت مرة أخرى إلى أن خوض أنقرة في بؤر التوتر العالمية هو موضع تساؤل مبني على أساس قاعدتين: التمدد التركي ودوافع تركيا الأيديولوجية. ومن المؤسف أن الأساس الأول يشكك في قدرات البلاد والآخر في نواياها.
تستند مسألة التمدد إلى تقديم تركيا الكثير من القدرات والكثير من المهارات الإدارية من خلال دورها الفعال في سوريا والعراق وليبيا وشرق المتوسط وإقليم قره باغ. ولا يقدّر المدافعون عن هذا الرأي مدى ما يعنيه تدخل تركيا بالغ الأهمية في المناطق المذكورة بالنسبة للأمن القومي التركي، في الوقت الذي تؤكد فيه أنقرة أنه ليست لديها مطامع في تلك المناطق.
وعلى العكس من ذلك، تستخدم تركيا التي تناضل في أكثر من جهة، نفوذها للمطالبة بمقعدها على الطاولة، وهي لا تسعى إلى حل الأزمات من جانب واحد. ويرتكز الوجود العسكري التركي على تكاليف منخفضة تدعم صناعة الدفاع الوطني.
أما استراتيجيات تركيا خلال فترات التغيير الجيوسياسي، فتحددها اعتماداً على التفاعل بين الاقتصاد والسياسة الخارجية والأمن. ويعتمد الأمر على حكمة الرئيس رجب طيب أردوغان في أخذ زمام المبادرة والتصرف بشكل عملي مع الحفاظ على المرونة عند الضرورة. وهكذا نجد تركيا تبادر بفتح صفحة جديدة عندما تتعرض علاقاتها الثنائية مع بعض الأطراف للإكراه.
ويعكس اتهام السياسة الخارجية التركية بأن دوافعها أيديولوجية، حملة تشهير أيديولوجية وليس حقيقة واقعة. فالسياسة الخارجية التركية ترتكز على الواقعية الجيوسياسية على عكس الأحلام الأيديولوجية.
ويدرك أردوغان أهمية القيم المشتركة والصداقات والمصالح بفضل الدروس المستفادة من الثورات العربية والحرب في سوريا والتنافس السعودي الإيراني وضم القدس. وهو يعرف جيداً ومنذ زمن بعيد الفرق بين الكلام والعمل.
والواقع أن الذين يتهمون أردوغان بتنفيذ سياسات عثمانية جديدة أو سياسات قومية تركية أو إسلاموية، قلقون من فقدان مكانتهم أو فشل مصالحهم الخاصة. وهنا تتبادر إلى الذهن على الفور اليونان والإمارات العربية المتحدة وفرنسا وإسرائيل.
كما ينضم إلى نفس الجوقة، أولئك الذين يريدون تركيا أن تكون "الحليف المثالي" بنظرهم أو بمعنى أدق أن تكون سهلة الانقياد، مع انتقادات من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تعكس الميل ذاته. وفي آخر اجتماع للناتو، حث وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو أنقرة على التصرف كحليف.
ومن المفارقات أن هذا النهج بالذات هو الذي ينتهك جوهر التحالف. إنهم يتوقعون أن تتعامل تركيا مع الحروب في سوريا والعراق بالإضافة إلى مسألة اللاجئين والجماعات الإرهابية بمفردها، بل وتتحمل كافة الأعباء دون أن تساهم أوروبا بأي جزء من المسؤولية. كذلك تتوقع واشنطن أن تظل تركيا صامتة تجاه الولايات المتحدة وهي تدعم إرهابيي ي ب ك/بي كا كا.
بعبارة أخرى، يريدون فرض تحالف أحادي الجانب على تركيا بدلاً من إيجاد حل وسط.
ويحاول هذا التيار التأديبي الذي تعتبر فرنسا الآن المدافع الرئيسي عنه، التأثير على إدارة جو بايدن أيضاً، وإساءة تصوير تركيا على أنها حليف إشكالي. وفي الواقع، تتعهد إدارة بايدن بتقوية وبث الحياة في حلف شمال الأطلسي الذي يرغب بعض أعضاء الاتحاد الأوروبي في استغلاله لتأديب الأتراك. وغني عن القول أن ذلك سيكون خطأً فادحاً.
لأن واشنطن لا بد أن تلاحظ وجود تركيا النشط في العديد من المناطق، بينما تعيد تقييم استراتيجيتها ضمن مساعيها لاستعادة دور أمريكا كقائد عالمي. ويتعين على التحالف الغربي تحديد مصالحه المشتركة مع تركيا وفتح صفحة جديدة معها.
لقد تمكنت تركيا من لعب دور نشط في السياسة العالمية خلال رئاسة دونالد ترامب، بالرغم من قواعد اللعبة التي سادت خلال تلك الفترة من الفوضى والأحادية والبحث عن المصالح الذاتية. وإذا ما بادرت إدارة بايدن إلى عصر التعددية والقيم والتحالفات، فإن أنقرة قادرة على لعب دور نشط في ظل الظروف الجديدة. أما عدم الاعتراف بالضرورات الجيوسياسية لتركيا والتغافل عنها، فسيؤدي إلى اهتمام أنقرة بمصالحها الخاصة.