كشف الرئيس رجب طيب أردوغان عن أساسيات مشروع الإصلاح الجديد، في الاجتماع البرلماني لحزب العدالة والتنمية الحاكم الأسبوع الماضي. وتسعى هذه المبادرة السياسية إلى التشجيع على المزيد من الإنتاج والاستثمارات الجديدة وخلق وظائف إضافية، فضلاً عن اعتماد أنظمة قضاء متطورة وأخرى تتعلق بحقوق الإنسان. ما يعني في المحصلة أن الإدارة تسعى إلى تعزيز الثقة في اقتصاد السوق وسيادة القانون.
كما أظهر خطاب أردوغان أيضاً التزام الحكومة بالتغيير الاقتصادي والقانوني والديمقراطي بمسار لا يرتبط بانتقادات المعارضة القاسية، ولا بتعهدات الرئيس حول "رؤية مستقبل تركيا في أوروبا" أو "إحياء علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة". ومن أهم ما يدعم هذا الالتزام، الدفاع عن المصالح التركية في ليبيا وشرق المتوسط وسوريا وقره باغ.
بعبارة أخرى، الإصلاحات القادمة لا تعني وجود عملية سلام جديدة ولا عودة إلى النظام البرلماني ولا تخفيف في إجراءات مكافحة الإرهاب بما في ذلك إطلاق سراح المحكوم عليهم. ولكنها تعني أن أنقرة ستعمل على تحسين جودة الإجراءات القضائية والتعامل مع نتائجها.
ومن المؤكد أن تركيا ستسعى إلى تحديد مصالحها المشتركة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وستعتمد بشكل أكبر على الدبلوماسية والحوار لهذا الغرض. وسيستمر أردوغان الذي طالما حثّ الحكومات الغربية على مراعاة مصالحها الاستراتيجية المشتركة مع تركيا، في اتباع النهج ذاته في المستقبل.
لكن تركيا التي تسعى للعمل عن كثب مع التحالف الغربي، لا يمكنها إهمال مصالحها الوطنية لمجرد إرضاء بعض الحكومات الأجنبية، ولهذا ستهتم بالتعاون مع إدارة جو بايدن.
وفي الوقت نفسه، ذكّرت استجابة تركيا لأحدث عمل استفزازي تعرضت له إحدى سفنها التجارية، قبل قمة الاتحاد الأوروبي المقبلة، الأوروبيين بقواعد الشراكة المنسية منذ زمن طويل.
وإذا حاولت الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي ممارسة الضغط على أنقرة باستخدام العقوبات، فسيعترض الأتراك على هذه المعاملة. وقد تخدم علاقات تركيا مع روسيا أيضاً، مصالح البلاد الوطنية.
وقد استخلصتُ من خطاب أردوغان أن تركيا لن تتراجع بالضرورة عن صراعها، لكنها تنظر إليه على أنه أساس التغيير. علاوة على ذلك، ستنفذ الحكومة إصلاحات ترمي إلى تعزيز النظام الرئاسي، بالتعاضد مع شركاء حزب العدالة والتنمية تحت مظلة تحالف الشعب.
وحول تصريحات أردوغان بشأن "عثمان كفالا" رجل الأعمال التركي المتورط في تحقيقات جماعة غولن المشؤومة، و"صلاح الدين دميرطاش" الرئيس السابق لحزب الشعوب الديمقراطي الموالي لتنظيم بي كا كا الإرهابي، وكلاهما مسجونان بسبب دعم الإرهاب، قفز بعض المراقبين إلى استنتاج مفاده أن الرئيس تخلى عن خطته الإصلاحية وانصاع لضغوط "دولت بهتشلي" رئيس حزب الحركة القومية. وتتصف هذه الحجج التي تقدمها المعارضة لتشويه التزام الحكومة بالإصلاحات، بقلة الإنصاف وعدم التقدير لمسيرة أردوغان في السلطة على مدى 18 عاماً.
فمن الواضح تماماً أن الإصلاح من وجهة نظر أردوغان، لا يشير إلى العودة إلى ظروف ما قبل 2013، ولا يعني إضاعة الوقت والجهد بعملية سلام تمت تجربتها مرتين دون نجاح. والواقع يؤكد أن الكثير من التغير قد حدث في السياسة الدولية والنظام الاقتصادي العالمي منذ تلك السنوات. وليس من المنطقي أن يتخلى أردوغان عن مزيج النضال والإصلاح من أجل إعادة ضبط الوضع.
إن التزام تركيا بالقتال بعد عام 2013 لم يكن عشوائياً، بل تمت بلورته من خلال المقاومة الوطنية لأحداث غِزي بارك وفضيحة الفساد في ديسمبر 2013 وأعمال الشغب في 6-8 أكتوبر 2014 ومحاولة الانقلاب في 15 يوليو 2016.
ومن هنا تأتي الحاجة إلى عملية إصلاح شاملة وحازمة وتدريجية. ويتعين على أنقرة تعزيز إرادة التغيير دون التخلي عن إنجازات نضالاتها السابقة. ولا يمكن للبلاد أن تحافظ على قوتها إذا أوقفت حربها ضد الجماعات الإرهابية مثل تنظيم بي كا كا ومنظمة غولن الإرهابية من أجل الإصلاح.
وبناءً على ما تقدم، لا يمكن لمقاومي التغيير توقع أن يتخلى أردوغان عن أجندة الإصلاح إن كانوا منطقيين. فالرئيس التركي يعتبر الإصلاح مطلباً وطنياً وشرطا لا بد منه للسير نحو العالم المستقبلي. وهو لن يتسامح مع مقاومة التغيير بحجة "النضال".
وسيقرر أردوغان توقيت الإصلاح ونطاقه ووتيرته، وعلينا أن نتذكر أنه حاكم مخضرم تمكن من البقاء في السلطة بفضل قدرته على تحقيق ذلك التوازن الذهبي.