تداولت وسائل الإعلام الغربية الأسبوع الماضي خبرين هامين بعناوين متناقضة تماماً. إذ تحدث أولهما عن استفزاز تركيا لحلفائها في الناتو من خلال اختبار نظام الدفاع الجوي إس-400، بينما تضمن الآخر تصريحات الرئيس الأوكراني "فولوديمير زيلينسكي" بشأن المستوى "غير المسبوق" للتعاون بين تركيا وأوكرانيا، معتبراً قرار الزعيم الأوكراني منح الرئيس رجب طيب أردوغان وسام الشرف إشكاليةً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وصورت وسائل الإعلام الغربية هذا التطور بأنه مضر إلى حد ما بعلاقة أردوغان مع بوتين.
ويُظهر الحكم من خلال هذين العنوانين، بأن تركيا تشهد توترات مع الولايات المتحدة وروسيا في آن معاً، وأن التوازن الذي حققته البلاد في علاقاتها مع القوتين العظميين معرض للانتكاس.
لكن الوضع في الحقيقة مختلف تماماً.
فاليوم، وبعد أن تعلمت تركيا نوعاً جديداً من العلاقات التي يسير الواقع المعاصر للنظام الدولي وفقها، نتيجة العديد من الأزمات التي مرت بها أنقرة منذ عام 2013، لم تعد التوترات أو التنافس بين البلدين يلغيان بالضرورة فرص التعاون.
فالمسار الجديد للحرب الأهلية السورية ومحاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، جعلا الحكومة التركية تتبنى نهجاً جديداً في تعاملها مع الغرب وروسيا على حدٍ سواء. وهذه السياسة الجديدة والديناميكية التي تتصف بالعملية والمرونة والتي تنتج عن التفاعل بين التوترات والتنافس والتعاون، جعلت استخدام القوة الصلبة محدوداً وضعيف التأثير.
على سبيل المثال، لا يستبعد التعاون بين تركيا وروسيا بشأن خط أنابيب "ترك ستريم" ونظام إس-400، المنافسة بين هذين البلدين في الساحة الأوكرانية أو في إقليم قره باغ وليبيا وإدلب.
ومن هنا جاءت تحيات بوتين لأردوغان في المؤتمر الصحفي يوم الجمعة، لأنه يقدّر تماماً هذه العلاقة الجديدة ويفهمها جيداً. فالرئيس الروسي الذي أشار إلى التزام تركيا بسياسة خارجية مستقلة رغم الضغوط الخارجية، اشتكى من أن موسكو لا تستطيع استكمال مشاريع الطاقة مع الحكومات الأوروبية بالسرعة التي أصبحت بها خطوط "ترك ستريم" حقيقة واقعة. وفي إشارة إلى تصميم أردوغان على شراء نظام إس-400، قال بوتين إن العمل مع هذا الشريك "ممتع وآمن".
ويحتاج القادة الغربيون أيضاً إلى تقدير وفهم ما اعترف به بوتين الأسبوع الماضي. لأن رفض تركيا الاعتراف بضم شبه جزيرة القرم ومنافستها لروسيا في ليبيا وقره باغ وأماكن أخرى، لا يعكس المشاعر المعادية لروسيا، مثلما لا يدل قرارها بشراء نظام إس-400 الروسي على أنه معارضة للغرب أو لحلف الناتو أيضاً.
وكمثال آخر فإن اكتشاف تركيا للغاز الطبيعي في البحر الأسود يقلل من اعتمادها على الطاقة الروسية. بينما يجبر الصراع في قره باغ موسكو على العمل بشكل أوثق مع أنقرة في منطقة القوقاز. وقد صرح بوتين بالفعل أمام الصحفيين الأسبوع الماضي أنه غير قلق من خلافات روسيا مع تركيا بشأن منطقة جنوب القوقاز، مشدداً على ضرورة البحث عن نقاط يمكن فيها تقديم بعض التنازلات. وأكد أردوغان بدوره التزامه بلعب دور ما، على طاولة المفاوضات وعلى الأرض بآن معاً، قائلاً إن تركيا لها الحق في أن تكون هناك أيضاً إذا كانت روسيا تعتزم التدخل من أجل حلٍ سلمي. بمعنى آخر، إذا كانت أرمينيا تريد موسكو، فإن أذربيجان تدعو إلى تدخل أنقرة. ومن الواضح أن روسيا مستعدة لقبول هذه الشروط.
وتشير التحليلات أيضاً إلى أن أنقرة ترغب في البقاء كجزءٍ من التحالف الغربي في الوقت الذي تسعى فيه إلى نوعٍ جديد من العلاقة مع روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. فالتكيف مع الظروف الجديدة يخلق فرصاً جديدةً لجميع الأطراف. وإذا ما أعيد انتخاب الرئيس دونالد ترامب في 3 نوفمبر، فإنه لا شك سيتمسك بهذه الشروط. أما في حالة فوز جو بايدن، فستتولى الولايات المتحدة دوراً عالمياً جديداً وبالتالي ستقوم بمراجعة علاقاتها مع كل من أوروبا والصين وروسيا.
وما من شك أن الإدعاءات التي تفضل وسائل الإعلام الغربية تسويقها، بأن أردوغان سيخسر أكثر من أي شخص آخر في حالة فوز بايدن، ليست صحيحةً ولا واقعية. لأن سياسات الديمقراطيين في الشرق الأوسط وروسيا لن تتسبب بتأجيج التوترات فقط بين الولايات المتحدة وتركيا، بل ستكون شرارةً لتوليد تعاون جديد بينهما أيضاً. وحتى قضية إس-400 لن تُترجم بالضرورة إلى عقوبات أمريكية في الأشهر الأولى المحتملة لرئاسة بايدن. لأن المضي قدماً في العلاقات الثنائية يتطلب إيجاد توازن جديدٍ في تلك العلاقات، كون الرئيسين أردوغان وبايدن يعرفان بعضهما جيداً. ولذلك سيكون من الحكمة فصل علاقات واشنطن مع أنقرة ومعالجة قضية إس-400 بشكل منفصل. ولطالما فعلت تركيا الشيء نفسه بنجاح في مجموعة من القضايا.
لكن السؤال الأهم هو، لماذا أشاد بوتين بأردوغان؟ هل لأنه يتوقع توترات مستقبلية بين روسيا والولايات المتحدة؟