تستمر في منطقة شرق المتوسط التوترات والصراعات على السلطة والمصالح، إلى درجة أن الولايات المتحدة المنشغلة حالياً بالانتخابات الرئاسية المقبلة، تدعو كلامياً إلى وقف التصعيد لكنها فعلياً تصب الزيت على النار.
فقرار الولايات المتحدة رفع الحظر المفروض منذ فترة طويلة على الإدارة القبرصية الرومية، وإن كان المقصود به كبح نفوذ روسيا في تلك المنطقة بالدرجة الأولى، لكنه يعزز أهداف اليونان وقبرص الرومية بشكل كبير في شرق البحر المتوسط. ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية وإمكانية تولي رئيس جديد إدارة البلاد في يناير 2021، يبدو من غير المتوقع أن تلعب الولايات المتحدة دوراً حقيقياً في تهدئة التوترات.
وبالرغم من أن الاتحاد الأوروبي الذي ترأسه ألمانيا حتى نهاية العام، يمكن أن يتخذ مبادرات جديدة، لكن موقف فرنسا العدواني يقوض جميع خطوات برلين البناءة.
لذلك ستظل مياه شرق البحر المتوسط على الأرجح "أخطر مياه في العالم" حتى العام الجديد.
وبما أن الصدام المحتمل بين تركيا واليونان من شأنه أن يجر الناتو إلى اضطرابات خطيرة، فمن المهم إبقاء التوترات تحت السيطرة إلى أن تتمكن الولايات المتحدة على الأقل من التركيز على الشؤون الخارجية مجدداً. وما من شك أن صعوبة إدارة التوترات في شرق المتوسط ستزداد أضعافاً مضاعفة إذا ما استسلمت ألمانيا للضغوطات الداعية إلى فرض عقوبات على تركيا بهدف "إثبات قوتها" في قمة زعماء الاتحاد الأوروبي في 24 سبتمبر الجاري.
ومن المؤكد أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يلعب دوراً رئيسياً في تصعيد التوترات عبر شرق المتوسط. وهو بدعمه اليونان عسكرياً، لا يحبط محاولات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لإطلاق محادثات بين تركيا واليونان فحسب، بل يعزز أيضاً من التواجد العسكري الفرنسي تسهيلاً لطموحات سياسته الخارجية.
فالرئيس الفرنسي يسعى بقوة لملء فراغ السلطة الذي أحدثه الانسحاب الجزئي لواشنطن. وخطواته الأخيرة لتشكيل حكومة جديدة في لبنان، ودفع عجلة القتال في العراق ضد تنظيم داعش الإرهابي، جميعها تعكس هذا الهدف.
لكن مشكلة الموقف الفرنسي الرئيسية تكمن في أن سياسة ماكرون الإقليمية الطموحة، تدعو إلى المواجهة والمنافسة مع تركيا. وهو بالفعل أمر ينطوي على خطورة، حيث تشوه فرنسا صورة تركيا وسمعتها وتظهرها بأنها القوة الدافعة وراء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كما تؤجج الغريزة الأوروبية لـ"احتواء تركيا" و"ضبط قرارات الرئيس رجب طيب أردوغان".
إن هدف ماكرون الحقيقي هو توظيف واستغلال جشع اليونان، في محاولة لاستعادة السيطرة الفرنسية على كل من سوريا والعراق، حيث تولت تركيا دوراً قيادياً مميزاً في السنوات الأخيرة. وفي هذا السياق يروج الرئيس الفرنسي لنفسه كقائد لأوروبا بإمكانه أن يطغى على ألمانيا، كون بلاده صاحبة قوة عسكرية عظمى في القارة. وفي حال استسلمت برلين للسياسة الفرنسية، فإن مصالح أوروبا الخاصة ستكون عرضةً لما لا يحمد عقباه.
والآن يسعى ماكرون إلى جعل منطقة شرق البحر المتوسط خطاً أحمر لا يمكن المساس به، وهو الذي رد على العمليات العسكرية التركية في سوريا بقوله إن الناتو "ميت عقلياً". كما يدّعي أن تركيا باعتبارها "قوة إمبريالية إقليمية"، عادت بعد انسحاب الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي من المنطقة، إلى تبني "تخيلاتها التاريخية" من جديد.
يبدو أنه قد غاب عن فكر الرئيس الفرنسي تماماً أن المنطقة بأسرها لم تعد ترى بلاده قوة إقليمية عظمى، بل تراها بالفعل صاحبة أوهام استعمارية.
ونظراً لأن سياسة ماكرون الداعية إلى استعداء تركيا تتعارض مع المصالح الاستراتيجية لأوروبا، فهو يهدد بالواقع بانهيار الجناح الجنوبي لحلف الناتو.
كما أن تقارب الرئيس الفرنسي مع روسيا التي تسعى إلى الاستفادة من التوترات داخل حلف الأطلسي، يقوي أيادي موسكو في ليبيا وشرق البحر المتوسط.
إن تغافل السياسيين الأوروبيين وسكوتهم عن محاولات دفع تركيا بعيداً عن الاتحاد الأوروبي، لا يخدم مصلحة أي طرف. وهو أيضاً أمر غير مفهوم ولا مبرر. إنه مجرد استسلام لمصالح أنانية ضيقة.
والرئيس الفرنسي الذي وبّخ صحفياً لفضح لقائه السري مع مسؤول في حزب الله في لبنان، هو ذاته من يعرّض مصالح أوروبا الاستراتيجية للخطر.
أفلا يوجد بين زعماء أوروبا من يستطيع مواجهة ماكرون ومناقشة أفعاله اللاعقلانية؟ أم أنهم يفضلون أن يقوم الرئيس أردوغان بنفسه بتوبيخ نظيره الفرنسي؟