أثار تدخل أنقرة في ليبيا جدلاً واسعاً ونقاشات كثيرة في عواصم أوروبا والشرق الأوسط حول دورها العالمي. الأمر الذي يعكس الاعتراف بأن تركيا قد تطورت لتصبح لاعباً أكثر قوة. وتركزت المناقشات على التحولات الملموسة في ميزان القوى في كل من سوريا وليبيا وشرق البحر المتوسط. وفي نفس الوقت عملت تلك النقاشات كحرب دعاية مع الكثير من التكهنات حول النوايا "الحقيقية" لتركيا. ومن المستحيل فهم أحدث تحركات تركيا وقدراتها وأهدافها دون فهم هذين الجانبين وإيضاح كل منهما على حدة.
ما من شك في أن السياسة الأمنية الاستباقية التي انتهجتها تركيا منذ عام 2016 في سوريا والعراق، قد عززت قوتها سياسياً وعسكرياً. كذلك وصلت قوة أنقرة الإقليمية إلى مستوى جديد تماماً في أعقاب مبادراتها في شرق البحر المتوسط وليبيا. ويدرك جميع أصحاب المصلحة تمام الإدراك هذا الواقع الجديد، وهم يتفقون أن تركيا بتوقيعها اتفاقيتين مع حكومة الوفاق الوطني في نوفمبر 2019، قد غيرت مسار الحرب الأهلية الليبية وحققت مكاسب إستراتيجية. ويؤكد المحللون أن انتصار تركيا المفاجئ أدى إلى فقدان فرنسا واليونان ومصر والإمارات العربية المتحدة لسلطتها في المنطقة.
وتعتقد بعض الحكومات الأوروبية اليوم أن نفوذ تركيا في ليبيا بات يوازي نفوذ روسيا فيها. ويقول آخرون أن تركيا التي تضغط على الاتحاد الأوروبي بورقة اللاجئين السوريين، تتواجد الآن بقوة في شرق المتوسط وشمال إفريقيا. وبينما ترحب دول مثل إيطاليا بنفوذ تركيا الحليفة في الناتو والقادرة على إلغاء النفوذ الروسي، تجادل دول أخرى مثل فرنسا، بأن تنامي القدرات التركية لا يعني بالضرورة التقليل من دور روسيا ونفوذها. وهم بذلك يحاولون إخفاء قلقهم من الخطر الذي يهدد مصالحهم الخاصة في شمال إفريقيا.
إنه لأمر طبيعي ومفهوم أن تراعي كل دولة مصالحها الوطنية الخاصة بالنظر إلى نفوذ تركيا الإقليمي المتزايد، وأن تسعى إلى بناء علاقات وتحالفات في ضوء هذه الحقيقة. كما تشرك أنقرة أيضاً في نظرتها للسلطة الحقيقية كلاً من واشنطن وموسكو وبرلين وباريس بناءاً على تقييمات مماثلة.
لكن الجانب الثاني من الجدل الدائر بشأن السياسة التركية الخارجية يمثل مشكلة كبيرة حيث تحول إلى حملة دعائية تروج إلى تشويه مستمر منذ عام 2013 يهدف إلى تصنيف الأتراك على أنهم مشحونون أيديولوجياً. والغرض الرئيسي من هذه الحملات هو إقناع أنقرة بالبقاء ضمن المجالات والحدود المناسبة لها. وبالتالي إقناع الأتراك أو إكراههم على الانسحاب من مختلف المناطق من خلال التشدق بالتحالف والمصالحة والنفوذ.
على سبيل المثال، غالباً ما يتحدث منتقدو البصمة العسكرية التركية في سوريا والعراق وليبيا والصومال وقطر، عن التوسع العثماني الجديد، زاعمين أن الدوافع الإسلامية أو المؤيدة للإخوان المسلمين هي التي تحرك تركيا. بينما يعتقد معارضو أنقرة الذين يدّعون تحول الأمة التركية إلى دولة الرئيس رجب طيب أردوغان، أن سياسة تركيا الخارجية النشطة هي تجسيد لأهدافه العدوانية. وهم لا ينظرون إلى العمليات العسكرية التركية في سوريا وشمال العراق ضد ي ب ك/بي كاكا على أنها عمليات مضادة للإرهاب. بل ويزعمون أن أردوغان يهاجم الأكراد الذين شاركوا في القتال ضد داعش.
لكن سياسة تركيا الخارجية أثبتت على مدى السنوات الأربع الماضية أنها واقعية وحتمية وشجاعة وأنها تمكنت من التعامل مع الاضطرابات الإقليمية والعالمية. ودول الخليج الموالية لنهج استمرار الوضع الراهن، التي جرّت المنطقة منذ اندلاع ثورات الربيع العربي إلى حروب أهلية لا تنتهي، ومثلها الولايات المتحدة التي دعمتها، هي التي أجبرت الأتراك على استخدام القوة الصلبة عندما لزم الأمر. وانخرطت تركيا في الصراع السوري عندما سمحت الولايات المتحدة لميليشيات ي ب ك/بي كا كا الدموية بإنشاء "ممر إرهابي" باسم محاربة داعش. كما أدى عجز الحكومة المركزية العراقية والسلطة الإقليمية الكردية عن محاربة تنظيم بي كا كا الإرهابي، إلى إنشاء قواعد تركية في شمال العراق.
كذلك نشرت تركيا أسطولها البحري في شرق البحر المتوسط ودخلت في شراكة مع ليبيا رداً على أهداف اليونان العدوانية التي شجعتها بعض الدول الأوروبية. إلى جانب محاولات تركيا استكشاف مجالات جديدة للتعاون مع روسيا بسبب دعم بعض حلفاء الناتو للتنظيمات الإرهابية مثل ي ب ك/بي كا كا وجماعة غولن المشؤومة.
ستظل تركيا مع استمرار الاضطراب العالمي الذي زادت جائحة كورونا من تفاقمه، ملتزمةً بالتحرك على أساس مصالحها الوطنية. وستنهج سياسات جديدة وتحدد أولوياتها الدبلوماسية على أساس التحليلات الواقعية. فقدرات تركيا فقط هي من يرسم حدود تحركاتها السياسية التي تدعو إلى الاستقرار والتوزيع العادل للموارد، وليس حملات الدعاية السوداء.