رغم مرور ثماني سنوات عصيبة، لا تزال الحرب السورية تمثل قضية رئيسية بالنسبة لتركيا. وتأتي حرب تركيا ضد الجماعات الإرهابية في قلب السياسة الداخلية والخارجية للبلاد، كذلك أزمة اللاجئين والعلاقات الثنائية مع القوى العظمى. لقد أطلقت الكثير من الأقاويل عن العلاقة المزعومة بين الاستياء من اللاجئين السوريين وفوز حزب الشعب الجمهوري في انتخابات بلدية إسطنبول. لذلك، أوليت اهتماماً كبيراً للمؤتمر الدولي الذي استضافه حزب الشعب الجمهوري حول سوريا نهاية الأسبوع الماضي. وكان من المتوقع أن تصدر بعض التوصيات السياسية الجوهرية عن هذا المؤتمر. لكن قيادة حزب الشعب الجمهوري فشلت في خلق تأثير إيجابي حول آرائها. بالإضافة إلى خطاب الحزب المعروف بالتعاطف مع "ي ب ك/بي كا كا"، امتنع المضيفون عن ذكر هذه التنظيمات الإرهابية في البيان الختامي حول مكافحة الإرهاب.
ومن النتائج الرئيسية للمؤتمر أيضاً، أمر طالما تكرر نقاشه بين صفوف المعارضة: على أنقرة أن تعيد التعامل مع نظام الأسد، لتعزيز السلام في سوريا.
لعله من صالح الديمقراطية في تركيا أن تسعى أحزاب المعارضة إلى تطوير أساليب بديلة للسياسة تجاه سوريا. لكن نتائج مؤتمر حزب الشعب الجمهوري، أظهرت أن حزب المعارضة الرئيسي في البلاد، بعيد عن الواقع، ناهيك عن عجزه على إجبار الحكومة على مراجعة سياستها.
إن الادعاء بأن الحوار مع بشار الأسد سيحقق السلام بطريقة أو بأخرى في سوريا، لا يراعي حساب توازن القوى بين تركيا والولايات المتحدة وروسيا وإيران في الشمال السوري. علاوة على ذلك، فإن التعامل مع شخص مسؤول عن مئات الآلاف من القتلى يعد مشكلة أخلاقية. حتى لو تجاهلت تركيا فظائع نظام الأسد بدافع البراغماتية السياسية، فإن إعادة التعامل مع دمشق اليوم من شأنه أن يحدث أضراراً أكثر من أن يجلب منافع.
والسؤال هنا بسيط للغاية: لماذا تتعامل تركيا مع الأسد مباشرةً في الوقت الذي يمكنها أن تتفاوض معه بطريقة غير مباشرة عبر موسكو؟
ولكي نكون واضحين تماماً، فإن بشار الأسد قد وصل إلى ما هو عليه اليوم بدعم القوات الجوية الروسية والميليشيات التي تدعمها إيران. لذلك، فهو مجرد لاعب ثانوي على المسرح السوري. ولا تستطيع دمشق التوقيع على أي أمر دون إذن من فلاديمير بوتين أو من علي خامنئي. ودمشق عاجزة حتى عن السيطرة على المناطق التي تمكنت من استعادتها من خلال القصف العنيف. وبما أن مصير مناطق التصعيد في إدلب أو المناطق التي تسيطر عليها ميليشيا "ي ب ك" الإرهابية، يعود إلى بشار الأسد، فإن إجراء محادثات مع دمشق لن يسهل عودة اللاجئين.
إن تركيا تلعب "اللعبة" مع روسيا وإيران والولايات المتحدة، في كل من الشمال الشرقي والشمال الغربي من سوريا. وهذه اللعبة لا تتطلب الاتصال المباشر مع الأسد في أي جزء منها. كما أن عملية أستانا مستمرة في تحقيق نتائج منذ تم إنشاء لجنة دستورية لها في أنقرة، مع تزايد الضغط على شرق الفرات. ورغم أن طبيعة المنطقة الآمنة المقترحة لا تزال غامضة، إلا أن الحوار بشأنها لا زال مستمراً. وسوف تتخذ تركيا خطوات من جانب واحد لتسريع العملية، إذا لزم الأمر.
في الوقت نفسه، فإن مقاتلي "ي ب ك" غير راضين عن إقصائهم من اللجنة الدستورية وفشل واشنطن في منع حدوث ذلك. كما يتفق وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع الأتراك بشأن مسألة المنطقة الآمنة، فهو يعتبر ميليشيا "ي ب ك" مجموعة إرهابية.
في ظل هذه الظروف، التعامل المباشر مع الأسد سيكلف تركيا أن تتخلى عن الجيش السوري الحر في المناطق التي حررتها عملية درع الفرات وعملية غصن الزيتون.
بالإضافة إلى الاحتفاظ بـ 3.6 مليون لاجئ سوري، الذين لا ينوي الأسد إعادتهم إلى أرضهم، وسينتهي المطاف بتركيا إلى اضطرارها استقبال ما يصل إلى مليوني لاجئ إضافي من إدلب.
كيف يأمل حزب الشعب الجمهوري الذي يقول إن تركيا لا يمكنها إعادة توطين اللاجئين السوريين قسراً في المنطقة الآمنة المقترحة في شمال شرق سوريا، أن يطمئن اللاجئين من خلال التعامل المباشر وإعادة الحوار مع بشار الأسد؟ من الذي يمكن أن يعيد هؤلاء اللاجئين إلى سوريا الأسد، في الوقت الذي تستولي فيه السلطات على ممتلكاتهم وتودع العائدين منهم السجون وترتكب جرائم قتل خارج نطاق القضاء؟
حتى لو اضطرت تركيا أن تتعامل أو تحاور بشار الأسد في المستقبل، فإن هذا لا يمكن أن يحدث قبل أن يتضح مصير إدلب وشرق الفرات. وكي تتمكن تركيا من الدخول في حوار مع الأسد، يجب أن تهيئ أنقرة لنفسها موقفاً قوياً للتفاوض، وذلك من خلال إقامة مناطق آمنة. وكي يتحقق ذلك، يجب على الأتراك ضمان إدراج الجيش السوري الحر في عملية الانتقال السياسي وإيجاد طرق لتسهيل عودة اللاجئين.
كما يجب على قيادة حزب الشعب الجمهوري أن تتنبه لحقيقة أن الدبلوماسية المبنية على القوة الحقيقية على الأرض، ضرورية لحل الأزمة السورية وليس المفاهيم الرومانسية عن الدبلوماسية.
في الواقع وإن كان الكلام التالي صادماً، موقف الحالي لحزب الشعب الجمهوري يتماشى مع ما قاله رئيسه كمال قليجدار أوغلو في الحملة الانتخابية من أن ميليشيا "ي ب ك" السورية التابعة لـ"بي كا كا" لا تشكل تهديداً لتركيا.