أجبرت الأم الكردية "هاجر أقار"، التي أطلقت اعتصاما الأسبوع الماضي لاستعادة ابنها من تنظيم بي كا كا الإرهابي، حزب الشعوب الديمقراطي على إغلاق مكتبه في ديار بكر بشكل مؤقت. ولم يغلق مكتب الحزب لوحده، بل أغلقت وأقفلت قلوب قادة الرأي والنخب.
نحن مدينون للآباء الأكراد الذين جُنّد أبناؤهم قسراً في تنظيم بي كا كا الإرهابي، بالتضامن معهم ودعمهم بصفتهم إخوتنا بالإنسانية وبصفتهم مواطنون أتراك أيضاً. كيف يمكن أن نتجاهل مأساة ضحايا الإرهاب الآخرين؟ف الذين يتجاهلون محنة الأمهات الكرديات تعفنت ضمائرهم تحت وطأة السياسة.
إن احتجاج الأمهات الكرديات يلقن المعارضة دروساً كبيرة وهي المشغولة في التظاهر أنها لا ترى ولا تسمع ولا تعلم ما ترتكبه منظمة بي كا كا من شرور. بادئ ذي بدء، الاحتجاجات التي تجري هي نوع من "الضغط الديمقراطي"، بكل ما فيه من معنى، يستحقه حزب الشعوب الديمقراطي لفشله في النأي بنفسه عن الإرهابيين. وقد أصبح من الواضح أيضاً أن الحملة على الجماعات المرتبطة بتنظيم "بي كا كا" الإرهابي في السنوات الأخيرة، قد جعلت حياة الناس في جنوب شرق تركيا أسهل. وأثبت الاحتجاج مؤخراً أن نخب حزب الشعوب الديمقراطي، الذين يزعمون أنهم يمثلون الأكراد، هم في الحقيقة مجرد غرباء.
وقد انتقدت الأمهات الكرديات سياسيي حزب الشعوب الديمقراطي بقولهن إنهم أرسلوا أبناءهم إلى المدارس الخاصة بينما أرسلوا أطفال الأكراد العاديين إلى الجبال. وكان هتاف إحدى الأمهات واضحاً، خارج مقر حزب الشعوب الديمقراطي في ديار بكر، وهي تقول "فلتسقط أنت وقضيتك في كردستان". إنها بداية النهاية الإيديولوجية لهذا الحزب. واليوم يتعين على السياسيين دعم الجهود الرائعة للأمهات الكرديات. ويجب أن يستمر الضغط الشعبي في تعزيز الحكم على الإرهابيين في محكمة الرأي العام.
كتب "أورال جاليشلار" في الأسبوع الماضي، وهو كاتب رأي في صحيفة "بوستا" اليومية التركية، أن الرد الأساسي والأكثر أهمية على القضايا العرقية يجب أن يكون "نزع سلاح الجماعات المسلحة التي تلجأ إلى الإرهاب". وتحدث عن إيرلندا الشمالية وإسبانيا وكولومبيا وجنوب أفريقيا كأمثلة يمكن أن تحتذى. ورفض "جاليشلار" الجهود الرامية إلى زيادة الضغط على حزب الشعوب الديمقراطي بسبب صلاته بتنظيم "بي كا كا" الإرهابي، وادعى أن حزب الشعوب الديمقراطي يمثل فرصة "لتطهير القضية من العنف" وبعبارة أخرى، لنزع سلاح التنظيم الإرهابي.
أنا لا أتفق مع موقف "جاليشلار" لثلاثة أسباب. أولا، أظهرت عمليتا السلام لعامي 2009 و2013 أن حزب الشعوب الديمقراطي غير قادر على العمل بشكل مستقل عن القيادة العسكرية لتنظيم "بي كا كا" في شمال العراق. وقد قام السياسيون من هذا الحزب بالتطوع أو أجبروا تحت ضغوط التنظيم على حفر خنادق في مراكز المدن. وإلى اليوم لا يزال المسلحون في الجبال يسيطرون على السياسيين في الشوارع. والحقيقة أن لدى تنظيم "بي كا كا" تاريخ طويل من استخدام العنف الشديد في إسكات القوميين الأكراد المتناحرين. ولا يوجد سبب للاعتقاد بأن حزب الشعوب الديمقراطي يستطيع ممارسة أدنى تأثير على تنظيم "بي كا كا" خصوصاً مع النزاعات العنيفة التي تدور في سوريا والعراق المجاورتين. على النقيض من ذلك، فإن الصيغة المعكوسة هي الصحيحة دائماً.
والمشكلة الأخرى في رأي "جاليشلار" هي أن الإمداد الثابت بالأسلحة لـ "بي كا كا" من الولايات المتحدة عبر فرع التنظيم السوري "ي ب ك"، وحرص واشنطن على الاستعانة بمصادر خارجية لاحتواء إيران لا يعطي للتنظيم الإرهابي أي سبب يحمله على إلقاء السلاح. يمكن القول إن التنظيم بسبب عقيدته لن ينزع سلاحه حتى لو أراد ذلك. إذ لا يسمح لهم حلمهم بـ "الدولة" ولا دورهم كمرتزقة بإلقاء السلاح. ولا يمكن حتى للتعليق المؤقت للعنف في تركيا، أن يساهم بشكل كبير في حل هذه القضية. وبدلاً من التوجه نحو السلام، سيفوز الإرهابيون بالوقت اللازم كي يتمكنوا من إعادة إطلاق حملتهم الإرهابية عندما تتاح الفرصة. وفي الوقت نفسه، سيواصل التنظيم تجنيد الشباب الأكراد والعرب بالقوة في سوريا والعراق.
أخيراً وليس آخراً، لا تتشابه قصص النجاح في جميع أنحاء العالم مع الوضع الحالي لتنظيم "بي كا كا" الإرهابي في المنطقة. فالجيش الجمهوري الإيرلندي و منظمة "إيتا" إنما ألقيا سلاحهما فقط عندما لم يعد بإمكانهما الاعتماد على شبكات الدعم في البلدان المجاورة.
لهذه الأسباب، ما من فائدة ترجى في الوقت الحالي من تخفيف الضغط الشعبي على حزب الشعوب الديمقراطي. بل إن كان هناك من واجب، فيتعين على السياسيين من جميع ألوان الطيف مضاعفة هذه "الأجندة الديمقراطية". ويجب على حزب الشعب الجمهوري وأحزاب المعارضة الأخرى، التي اعترضت صراحةً على إقالة رؤساء البلديات من حزب الشعوب الديمقراطي، أن لا يقوضوا الحرب ضد الإرهاب بتجاهل محنة ضحايا تنظيم "بي كا كا". إن الاعتراف بمعاناة الأمهات الكرديات من شأنه أن يساعد على إدانة الإرهابيين في محكمة الرأي العام.
واسمحوا لي أن أضيف أن الجماعات الإرهابية لا تلق السلاح من خلال الحوار فقط. بل يجب هزيمتها بالقوة وإدانتها أمام الرأي العام قبل إجبارها على التفاوض وقبول الشروط. سيبقى الطريق إلى حل سلمي بعيد المنال حتى يتم تحرير السياسيين الذين يدافعون عن الأجندة القومية لأكراد تركيا من نير تسلط حزب الشعوب الديمقراطي والـ"بي كا كا".