دخلت العلاقات التركية الأرمينية مرحلة جديدة تمامًا بعد حرب "قره باغ" الأخيرة (عام 2020)، فيما أعطى وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو إشارات على بدء مرحلة جديدة في العلاقات التركية الأرمينية، في كلمته التي ألقاها في البرلمان التركي 13 ديسمبر/ كانون الأول الجاري.
وأفاد تشاوش أوغلو أن البلدين سوف يتبادلان تعيين ممثلين خاصين بالتزامن مع إطلاق رحلات طيران الشارتر بين الدولتين، مشيرا أن هذه الخطوات تأتي بالتنسيق مع أذربيجان التي هي جزء من هذه التطورات الحالية والمستقبلية.
- بعد حرب قره باغ
كشفت مخرجات الانتخابات الأرمينية وموقف الشتات الأرمني والقرارات السياسية التي اتخذتها الدول الغربية، والعديد من القضايا الأخرى، كشفت مرة أخرى عن ضرورة حل المشاكل التي تواجه العلاقات التركية الأرمينية بالوسائل السلمية في أسرع وقت ممكن.
إن أي عملية تطبيع للعلاقات التركية الأرمينية سوف تنعكس بشكل إيجابي على جميع الأطراف، لا سيما أن الجانب الأرميني أعلن عن استعداده للتطبيع دون شروط مسبقة، وأن حدوث مثل هكذا تطور سوف ينعكس بالفائدة على جميع دول المنطقة في المستقبل، وسيلعب دورًا مهمًا في التنمية السياسية والاقتصادية والثقافية لجنوب القوقاز.
- الآثار الإقليمية للتطبيع
في الفترة الماضية، أبدت أرمينيا استعدادها لتطبيع العلاقات مع تركيا، كما شكل سماح الجانب الأرميني لأذربيجان باستخدام مجالها الجوي مؤشرا مهما.
ويريفان تبدي رغبة في السير في عملية التطبيع التي من شأنها أن تحول جنوب القوقاز في المستقبل إلى منطقة خالية من الصراعات والحروب، تنعم بالسلام والهدوء والازدهار الاقتصادي. إن تطبيع العلاقات التركية الأرمينية يمهد الطريق لتأسيس مشاريع في مجال الطاقة والنقل والبنية التحتية وبالتالي المساهمة في الازدهار الاقتصادي للمنطقة.
- ممر "زنغيزور":
بعد حرب قره باغ، وقع الرئيس إلهام علييف ورئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان برعاية روسيا، على إعلان عرف باسم إعلان موسكو تضمن فتح ممر يربط البر الرئيسي في أذربيجان مع جمهورية نخجوان ذاتية الحكم عبر ممر "زنغيزور".
إن افتتاح هذا الممر سوف يساهم على المدى الطويل في تأسيس مشاريع مهمة لنقل الطاقة وبناء خطوط أنابيب النفط والغاز الطبيعي وطرق نقل الطاقة في المنطقة.
والممر همزة وصل في عالم التجارة بين الشرق والغرب، لا سيما في ظل مشاريع إعادة إحياء طريق الحرير التاريخي.
ويتيح الممر توفير تواصل بري بين تركيا من جهة والجمهوريات التركية في وسط آسيا والقوقاز من جهة أخرى، لذلك يعرف هذا الممر أيضًا باسم "ممر العالم التركي".
كما تم إدراجه أيضًا في إعلان شوشة الموقع من قبل علييف ونظيره التركي رجب طيب أردوغان في مدينة شوشة الأذربيجانية في 15 يونيو/ حزيران الماضي، لكونه يشكل جزءًا مهمًا من عملية التطبيع.
إن تطبيع العلاقات بين تركيا وأذربيجان من جهة وأرمينيا من جهة أخرى من شأنه أن يجلب السلام والاستقرار إلى منطقة جنوب القوقاز، والتخفيف من وطأة الآثار السلبية لجائحة كورونا على اقتصادات دول المنطقة.
ولا بد من الإشارة إلى أن فتح الممر وتطبيع العلاقات التركية الأرمينية يثير انزعاج بعض الأطراف كونه يوفر لتركيا تواصلا بريًا مباشرًا مع الجمهوريات التركية وسط آسيا والقوقاز، أي مع العالم التركي وينعكس بصورة إيجابية على مشاريع النقل في المنطقة.
لذلك، وبينما يقلل ممر "زنغيزور" من نفوذ إيران في المنطقة، سوف يحقق أيضا تأثيرًا اقتصاديًا إيجابيًا على الدول الشرقية والغربية على حد سواء.
- التطبيع من زاوية "المشكلة الأرمنية"
ومن خلال نظرة تاريخية إلى الموضوع، نجد أن المجتمعات التركية والأرمنية ارتبطت بعلاقات وثيقة في مراحل مختلفة عبر التاريخ.
وعلى الرغم من أن أحداث عام 1915 تسببت في مسح الذاكرة المشتركة لهذين الشعبين إلا أن الوقوف عند ذلك التاريخ يمثل أيضًا عقبة خطيرة أمام التقدم في العلاقات والتطلعات نحو المستقبل.
لهذا السبب، وبفضل السياسات الجديدة التي اتبعها باشينيان فيما يتعلق بكل من قره باغ وأحداث عام 1915، تمكن من الحصول على غالبية الأصوات في الانتخابات الأخيرة، رغم الاحتجاجات التي شهدتها أرمينيا بعد حرب قره باغ 2020.
ولا بد من الإشارة أيضًا إلى وجود بعض الجماعات القومية الأرمنية التي تسعى الى تعطيل التطبيع..
فيما تعتبر إدارة باشينيان عملية التطبيع فرصة تاريخية ليريفان. لكنها بحاجة إلى تحييد الدور المهيمن للشتات والدول الكبرى وعدم السماح لهم في التأثير على هذه العملية التاريخية لأنها تدرك أهمية التخلص من العزلة التي تعيشها في المنطقة.
- الآثار العالمية للتطبيع
عندما ننظر إلى التأثيرات العالمية لتطبيع العلاقات التركية الأذربيجانية مع أرمينيا، نرى أهمية هذه العملية على زيادة التواصل البري بين تركيا وبلدان العالم التركي، وزيادة إمكانيات التبادل الاقتصادي وبناء مشاريع جديدة للنقل في المنطقة.
وبما أن أرمينيا بحاجة إلى المشاركة في هذه المشاريع وتحريك التفاعل الاقتصادي فإن الفائز الأكبر جراء التطبيع ستكون يريفان والأرمن بشكل عام.
إلى ذلك، ينبغي الإشارة إلى أهمية الدور الروسي الذي يقع في قلب هذه العملية كدولة ضامنة للوضع في قره باغ بعد حرب الـ 44 يوما، في الوقت الذي تواصل فيه إيران إظهار عدم ارتياحها من التطورات الجارية، إضافة إلى مواقفها أثناء الحرب وبعدها، وأخيراً المناورات العسكرية التي أجرتها على الحدود مع أذربيجان لتوتير الأجواء في المنطقة.
الواقع أن فتح ممر "زنغيزور" سيضعف بشكل مباشر أو غير مباشر من مكانة إيران كقوة إقليمية، وعليه فإن طهران تتابع التطورات المتعلقة بتطبيع العلاقات وافتتاح الممر مفضلة البقاء في الجانب الخاسر من المعادلة.
ومن المعروف أن الولايات المتحدة لم تتدخل خلال حرب قره باغ الأخيرة، بينما واصلت فرنسا دعمها لأرمينيا، ما دفع موسكو لممارسة "الاستبعاد المتعمد" لإدارة إيمانويل ماكرون ودول غربية أخرى من التطورات المتعلقة بجنوب القوقاز.
ومع ذلك، يمكن القول إن الدول الغربية ستدعم عملية تطبيع العلاقات التركية الأرمينية وفتح ممر "زنغيزور" بناءًا على حسابات اقتصادية وسياسية.
وفي النتيجة، ستظهر أهم آثار تطبيع العلاقات بشكل جلي في جنوب القوقاز. كما تسمح لتركيا بالبروز بشكل أكبر كقوة إقليمية مهمة، إضافة للانعكاسات تاإيجابية على المستوى العالمي، وخاصة داخل الدول الغربية.
بقلم: يلدز دوه جي بوزقوش