عناصر التأثير العثماني في العمارة الأوروبية
- علي توفكجي, إسطنبول
- Aug 13, 2020
تشكل الهندسة المعمارية إحدى أهم مجالات الثقافة التي فتنت أوروبا وزادت من تأثرها بالحضارة العثمانية فيما عرف
بالـ "Turquerie" وهو تيار استشراقي سرى في أوروبا الغربية بين القرنين السادس عشر والثامن عشر لتقليد جوانب الفن والثقافة التركية.
شهد القرن الثامن عشر تبادلاً ثقافياً غير مسبوق بين الشرق والغرب. وكانت الإمبراطورية العثمانية بجلالها وعظمتها أول ما يتبادر إلى الذهن عندما يذكر الشرق في أوروبا. وأدى تطور العلاقات التجارية الفرنسية العثمانية في عهد السلطان سليمان الأول المعروف باسم سليمان القانوني إلى إضفاء صبغة إيجابية على صورة الإمبراطورية العثمانية التي كانت حتى ذلك الوقت تثير الخوف في نفوس الغربيين.
وبعد فشل حصار فيينا عام 1683 وصلت الأراضي العثمانية إلى حدودها النهائية وتوقفت الفتوحات الجديدة باتجاه قارة أوروبا. وبدأت فترة حماية أراضي الإمبراطورية التي أثار الخوف من قوتها وسلطانها الفضول لدى الغرب للتعرف على كافة جوانبها الحضارية وخصوصاً بعد أن نجحت زيارات السفراء العثمانيين إلى فرنسا في القرن الثامن عشر في خلق تأثير قوي لهم على الثقافة الأوروبية. وكان وصول السفير العثماني "محمد جلبي" إلى فرنسا عام 1712، العامل الرئيسي الذي أدى إلى سريان التأثير التركي وانتشار التبادل الثقافي الفعال في الغرب.
وكانت تأثيرات الفترة التي يشير إليها المؤرخون باسم عصر التوليب، بعيدة المدى على الغرب حيث مثلت ذروة الثقافة والفنون في الإمبراطورية العثمانية، حين اختصت الزخارف بتمثيلات الزنبق وحده لتعطي هوية فريدة للتزيين المعماري الخاص بتلك الحقبة من الزمن.
وترك السفير "محمد جلبي" والوفد المرافق له بصماتهم في إظهار جميع عناصر الجماليات العثمانية منذ زيارتهم الأولى لباريس التي عرفت الأزياء التركية فيها شهرة واسعة امتدت في فترة لاحقة لتجتاح أوروبا بأكملها لدرجة أن الإعجاب بالعثمانيين تجسد مع إنشاء "نادي الديوان" Divan Club في لندن خُصص للسادة الذين زاروا الإمبراطورية العثمانية في القرن الثامن عشر.
ولا زلنا نرى اليوم تأثير الحضارة العثمانية في العديد من الأعمال الفنية الأوروبية، من الرسم إلى الموسيقى ومن الهندسة المعمارية إلى الديكور.
القاعات التركية:
كان للعثمانيين تأثيراً أكبر في مناطق وسط أوروبا، حيث وقعت معظم حروبهم ضد الإمبراطورية النمساوية والمدن الألمانية التي لم تكن موحدة في القرن الثامن عشر. ومن ثم، معرفة حكام أوروبا الوسطى بالعثمانيين كانت أكبر من جميع النواحي لأن النبلاء الأوروبيون جمعوا باهتمام كبير ما تركته الجيوش التركية وراءها من خيام وأسلحة والعديد من الأشياء الثمينة بعد معركة فيينا وراحوا في وقت لاحق يقيمون المعارض لإظهار مجموعاتهم من العناصر التركية.
أقام "فريدريك كريستيان" أمير ساكسونيا، أول معرض لمجموعة أسلحة عائلته في جزء مصمم خصيصاً على الطراز الشرقي في قلعة درسدن أو القصر الملكي، في ألمانيا. وأثارت هذه القاعات فضول التعرف إلى الشرق وتقليده في أوروبا، مما جعل الحكام الآخرين ينهجون نهجه ويصممون قاعات أو أجزاء خاصة لها طابع شرقي وتحمل تصميمات داخلية ذات طابع تركي.
يعد المنزل التقليدي من السمات المميزة للحضارة العثمانية. وقد ظهرت هذه المنازل في المدن التي كانت فيها الدولة تتمتع بمركزية قوية بعد القرن السابع عشر. ويتألف المنزل العثماني من مساحات مشتركة وواجهات وتصميمات داخلية خاصة. وتم تكييف الغرف داخل المنزل لأداء كل الوظائف الحياتية بشكل هندسي سلس قدر الإمكان. كما تم تقسيم الغرف بشكل يراعي التعاليم الدينية ويسمح للرجال والنساء بالجلوس بشكل منفصل. واتصفت جدران المنزل التقليدي بالارتفاع بحيث يمكن للمرأة أن تتحرك ضمنه بحرية أكبر. وقد جذبت تصاميم هذه المنازل انتباه الأوروبيين الذين أتوا لزيارة البلاد.
وفي القرن الثامن عشر، أشار "توماس شيراتون" مصمم الأثاث والديكور، إلى النقوش التي شوهدت في المنازل التركية والديكورات الداخلية لها في كتابه "رسم صانع الخزانة والمنجّد".
كما بنت الملكة الفرنسية الشهيرة ماري أنطوانيت غرفتها التركية الخاصة في "شاتو دي فونتينبلو" بالشكل والأسلوب الأوروبيين لكن باستخدام الزخارف والأنماط العثمانية بكثافة حيث أبرزت الفروع المطلية بالذهب في المدفأة الرخامية وتركيبات الأوراق المزخرفة المنقوشة والزهور الموضوعة في الكوات، بديع الصنعة التركية.
كذلك أصبحت العمامة رمزاً للأتراك في تفاصيل زخارف الغرف العثمانية. بالإضافة إلى ذلك، كان عنصر الزخرفة النافرة لنبات اللبلاب الملتف حول المحراب أحد أكثر سمات العمارة العثمانية شيوعاً في القرن الثامن عشر.
وتضيف اللوحات ذات الجذور العثمانية جواً مميزاً إلى الديكورات الداخلية في القصور الأوروبية. إذ كان يطلب من المبعوثين والمسافرين الذين يذهبون إلى الإمبراطورية العثمانية لأغراض دبلوماسية إحضار لوحات ذات طابع شرقي. وقد تم جمع هذه اللوحات لتزيين القصور والقاعات الأوروبية لاحقاً، وأصبح معظمها أرشيفاً يسجل التاريخ. كما تم استخدام لوحات المناظر الطبيعية العثمانية في كافة أنحاء أوروبا، وتم تصوير بعض الشخصيات التركية في لوحات خاصة.
وحظيت لوحات الرسام الفرنسي "تشارلز أندريه فان لو" بمكانة رفيعة في الزخرفة الأوروبية لأنها حافظت على العناصر التركية في المقدمة. وتشهد على ذلك الزخارف الخارجية التي صنعها الفنان في قلعة "جان أنطوانيت بواسون" وقد طرز في هذا العمل الحياة اليومية للإمبراطورية العثمانية من خلال الزخارف، مضيفاً بعداً مختلفاً إلى فنه.
كذلك خلد السجاد المزخرف موضوعات شرقية مثل تصوير وصول ومغادرة محمد جلبي إلى قصر "التويلري" في باريس أثناء توليه منصب السفير عام 1721 من خلال المنقوشات على السجاد.
المسجد الوردي في ألمانيا:
كانت ألمانيا في القرن الثامن عشر تتكون من العديد من المدن المستقلة. وكان من أبرز أمرائها "تشارلز ثيودور" الذي حكم بروح التنوير ونفذ العديد من الإصلاحات.
دعم "ثيودور" بناء الأعمال المعمارية الفريدة مثل قصر "شفيتزنجين"، الذي استخدمه الأمراء كمقر صيفي لهم وقد بنى المهندس المعماري الفرنسي "نيكولا دي بيجيج" مسجداً في حديقة هذا القصر. مما يدل على اهتمام "ثيودور" بالثقافات المختلفة.
تجدر الإشارة إلى أن المسجد بني لأغراض الزينة وليس للعبادة. اكتمل العمل فيه عام 1795، وكان أحد أكثر المناطق إثارة للاهتمام في القصر وأضفى لمسة شرقية إلى حديقته. وتم فيه أداء صلاة واحدة فقط يوم أدى العمال الأتراك صلاة العيد هناك في 20 مايو 1961.
وكُتبت على جدران المسجد عبارات تدل على الحكمة والموعظة باللغتين العربية والألمانية منها: "الثروة مؤقتة وكذلك العالم، وحدها الأعمال الصالحة أبدية" و"يعتبر الأحمق التحذير عداوة" و"بسبب الورود تسقى الأشواك" و"الوحدة أفضل من صديق السوء" ولا يزال هذا القصر والمسجد في حديقته يستقبل الزوار كمتحف إلى يومنا هذا.
كما جمع الأمير الألماني "ثيودور" عازفين بارزين من جميع أنحاء أوروبا تحت مظلة "مدرسة مانهايم" الموسيقية الأولى من نوعها. وكان من بينهم شخصيات راقية مثل "موتسارت" المشهور بلوحة "روندو ألا توركا" وتعني "المسيرة التركية".