يسارع معظمنا لحظة الاستيقاظ بالتحقق من الإخطارات التي وصلته على الوسائط المتعددة. ثم يبدأ يومنا الذي نقضي أغلبه أمام شاشة الكمبيوتر وينتهي يوم العمل لنقضي وقتنا بعده أمام شاشة أخرى، سواء شاشة الهاتف أو التلفاز. وأخيراً، نذهب إلى الفراش مصطحبين أحد الأجهزة الرقمية التي تجعلنا نتحقق من إشعاراتنا للمرة الأخيرة قبل أن نغلق عيوننا.
فهل يؤدي مثل هذا الاعتماد على الأدوات الرقمية إلى تأثير سلبي على رفاهية الفرد؟
لا شك في أن هذا السؤال بات يؤرق الكثيرين في الوقت الحاضر.
ومنهم على سبيل المثال "آنا ريدمان" التي سئمت من الاضطرار إلى التحديق في الشاشة بحثاً عن شيء ما يتعلق بالعمل أو إجراء مكالمات العمل وما شابه.. ، فتوجهت برفقة زوجها إلى مقصورة خشبية خارج لندن، ووضعت هاتفيهما داخل مظروف مغلق وأمضت وإياه 3 أيام خارج الشبكة في وقت سابق من هذا العام.
وقالت السيدة "ريدمان" التي تبلغ من العمر 29 عاماً، والتي تعمل في مجال العلاقات العامة وتشعر بالحاجة إلى "التخلص من السموم الرقمية" حيث تحولت جميع جهات اتصالها الاجتماعية تقريباً عبر الإنترنت، خلال إغلاق كوفيد-19: "لقد شعرت أن التجربة بالعيش بعيداً عن الشاشات الرقمية والانترنت جذابة حقاً. كم سررت بعدم تمكني من الاتصال بالإنترنت على الإطلاق لبضعة أيام".
وهذان الزوجان يمثلان شريحة صغيرة من بين عدد متزايد من الأشخاص الذين يختارون أخذ استراحة مؤقتة من التكنولوجيا بعد أن ضاعف الوباء تغذية التعب التكنولوجي، وظهرت بسببه مجموعة من المنتجات والخدمات التي تزيد الإقبال على الشاشات الرقمية.
ولذلك بدأت مؤخراً بعض الحلول القادرة على نقل الأشخاص من شاشات أجهزتهم إلى أماكن حقيقية تحد من وصولهم إلى شبكة الإنترنت، بالظهور والانتشار. مثل بعض المخيمات التي تقام بين ربوع الطبيعة الخضراء أو المطاعم التي تحظر استخدام الهواتف على الطاولة وغيرها. وتعِد هذه الحلول بالمساعدة في تعزيز الرفاهية من خلال السماح للأشخاص بإعادة الاتصال بالحياة الحقيقية بعد أن ظلوا أسرى الحياة الافتراضية زمناً طويلاً.
وقال خبراء في هذا النهج إن الاهتمام بإزالة السموم الرقمية بدأ يتزايد باطراد في السنوات الأخيرة حتى قبل اندلاع الوباء.
ووجدت دراسة استقصائية أجريت عام 2018 على أكثر من 4000 شخص في بريطانيا والولايات المتحدة من قبل شركة الأبحاث GWI، أن 1 من كل 5 أشخاص يسعى للتخلص من السموم الالكترونية من خلال إنقاص 70% من الوقت الذي يقضيه على الإنترنت.
وقال "هيكتور هيوز" المؤسس المشارك في شركة Unplugged، وهي شركة بريطانية ناشئة تدير العديد من الكبائن السياحية التي لا تدعم خدمة الإنترنت بالقرب من لندن، بما في ذلك المكان الذي أقامت فيه "ريدمان"، أن الشركة افتتحت 5 مواقع جديدة هذا العام بعد إطلاق أولها عام 2020. وأن جميع تلك الكبائن تم حجزها طوال الصيف.
وأضاف: "الناس يريدون بالفعل التمتع باستراحة حقيقية. وأعتقد أن هذا الشعور نتيجة مباشرة للإغلاق وقضاء كل هذا الوقت على الشاشات".
وأوضح: "نضع كبائن على بعد ساعة من حياة المدينة العامرة بالصخب ومسؤوليات العمل. يأتي الناس إليها ويغلقون هواتفهم ويضعونها في صندوق. ونحن بدورنا نمنحهم فرصة الاستراحة الهادئة ونزودهم بخريطة ونتركهم لمدة 3 ليالٍ".
وغالباً ما يتم وصف "الاستراحة من التكنولوجيا" كوسيلة لتعزيز الرفاهية العامة والمساعدة في مكافحة اضطرابات النوم والقلق والاكتئاب.
لكن بعض الباحثين متشككون:
فعلى سبيل المثال قالت "ثيودورا سوتون" عالمة الأنثروبولوجيا الرقمية التي بحثت عن معتكف خارج الشبكة في الولايات المتحدة: "يقول الناس إنهم يشعرون بتحسن بعد عطلة نهاية الأسبوع في الغابة، لكنهم في الواقع كانوا يستمتعون بقضاء عطلة مع أنفسهم".
وأضافت: "إذا أبعدت التكنولوجيا فقط ولم تستبدلها بأي شيء آخر، فلن تحصل على وقت أفضل".
كما وجدت دراسة أجرتها جامعة لوبورو في بريطانيا عام 2019 أن فترة 24 ساعة من الامتناع عن استخدام الهواتف الذكية لم يكن لها أي تأثير على الحالة المزاجية والقلق.
كذلك لم يذكر المشاركون في دراسة مماثلة أجراها باحثو جامعة أكسفورد هذا العام، تحسناً في الرفاهية الشخصية، مثل الشعور بزيادة احترام الذات أو الرضا عند تركهم وسائل التواصل الاجتماعي ليوم واحد.
وفي هذا السياق قال "أندرو برزيبيلسكي" عالم النفس التجريبي في معهد أكسفورد للإنترنت، إن التأثيرات المحتملة على الصحة العقلية للتكنولوجيا الرقمية غالباً ما تكون مبالغاً فيها.
وأضاف: "من غير المنطقي أن تقول إن إحدى الحيل البسيطة مثل إغلاق هاتفك يمكن أن تقودك إلى عيش حياة أكثر سعادة".
ومع ذلك، فإن استخدام التكنولوجيا يستغرق وقتاً واهتماماً قد يشعر البعض أنه يمكن استخدامه بشكل أفضل في مكان آخر.
وعلق "برزيبيلسكي" بالقول: "نحن نحاول دائماً بصفتنا بشراً، التوفيق بين جميع أنواع الأشياء مثل كونك أباً وزوجاً وأستاذاً ... هناك دائماً توازن عليك تحقيقه". مشيراً أنه بالنسبة لبعض الأشخاص، يمكن أن يكون التراجع الرقمي للتخلص من السموم فرصة لتقييم العادات اليومية والنظر فيما إذا كانوا بحاجة إلى التغيير.
وأفاد المشاركون في بحثه أنهم انخرطوا أكثر في التفكير الذاتي أثناء استراحة التكنولوجيا خارج المدينة.
وقال "برزيبيلسكي" إنه بينما عاد معظم الأشخاص إلى استخدامهم السابق للهاتف بعد التخلص من السموم، قرر البعض تقليل الوقت الذي يقضونه في استخدام أجهزتهم.
"وجد العديد من الأشخاص أنه لا يوجد شيء عاجل ينتظرهم عند إعادة تشغيل هواتفهم، وهذا ما جعلهم يفكرون في كيفية التخلص من الجهاز لبضع ساعات في اليوم والتركيز بشكل أكبر على العمل أو الترفيه".
أما بطلتنا "ريدمان" فقد حذفت حسابها على إنستغرام من هاتفها الشخصي بعد عطلة نهاية الأسبوع خارج الشبكة، وصارت تتركه الآن في المنزل عندما تخرج في نزهة على الأقدام.
وقالت: "صار لدي ساعة من الوقت لنفسي حيث لا أفكر في العمل".