أهمية انتصار ملاذكرد ودوره في تغيير مجرى التاريخ
- عامر سليمان, إسطنبول
- Aug 26, 2021
تحل اليوم الذكرى الـ950 لمعركة ملاذكرد التي انتصر فيها الأتراك السلاجقة بقيادة السلطان محمد ألب أرسلان على الإمبراطورية الرومانية بقيادة الإمبراطور رومانوس الرابع عام 1071 الموافق 463هـ.
ويُعَدّ انتصار ملاذكرد واحداً من أكثر الانتصارات تأثيراً في التاريخ الإسلامي، بل والمسيحي أيضاً.
ولا تنبع أهمية الانتصار في ملاذكرد من كونه مهّد الطريق أمام الفتوحات التركية في الأناضول فحسب، بل تعدى تأثيره إلى إحداث تغيرات سياسية وجغرافية وحتى اقتصادية وديموغرافية في منطقة الأناضول.
سبب الحرب:
عام 1071 أعد السلطان ألب أرسلان جيشاً كبيراً وخرج به متوجها إلى مصر لتخليصها من حكم الفاطميين. وفي الطريق سيطر على ديار بكر وحلب. كما علم في الطريق بأن الإمبراطور رومانوس ديوجينيس قد خرج على رأس جيش ضخم قاصداً القضاء على دولة السلاجقة وإنهاء الوجود التركي في إيران وشرق الأناضول ثم التوجه إلى بغداد.
كان الإمبراطور رومانوس يطمح إلى نصر عسكري كبير يثبّت به نفسه إمبراطوراً ويقوّي دعائم حكمه لإقناع شعبه والنبلاء في الإمبراطورية بأنه يستحق الملك لكونه لم يكُن منحدراً من نسل الإمبراطور، بل تُوّج إمبراطوراً بعد زواجه بالإمبراطورة إيدوكيا مكرمبولتيسا، أرملة الإمبراطور قسطنطين العاشر دوكاس.
توجه ألب أرسلان بجنوده إلى شرقي الفرات وأمر بتسريح معظم القوات التي أُنهِكَت، وواصل السير بفئة قليلة من جنوده نحو مدينة خوي (في أذربيجان)، فيما أرسل زوجته ووزيره نظام الملك إلى همذان.
ويذكر المؤرخ الأصفهاني في كتابه "تاريخ آل سلجوق" أن السلطان ألب أرسلان بقي مع 15 ألف فارس من نخبة رجاله مع كل فارس منهم فرس يركبه وفرس بجواره، في حين قدر أعداد جيش إمبراطورية روما الشرقية بأكثر من 300 ألف من مختلف الأعراق والأجناس.
وفي المصادر اختلاف بخصوص أعداد الجيشين، إلا أن بعض الأبحاث الأكاديمية الحديثة يرجّح أن يكون جيش السلاجقة في حدود 50 ألف جندي مقابل 200 ألف جندي في جيش الإمبراطور البيزنطي، قسم كبير منهم من المقاتلين المرتزقة.
عسكر الجيشان بالقرب من ملاذكرد (تقع حالياً داخل حدود ولاية موش شرقي تركيا)، وأرسل السلطان ألب أرسلان رسولاً إلى الإمبراطور يعرض عليه الهدنة، فرفض الأخير واستهزأ بجيش السلطان.
وبعد أن أمّ السلطان جنوده في صلاة الجمعة ولبس لباسه الأبيض وعقد ذيل فرسه بنفسه، خطب في الجنود قائلاً: "نحن مع القوم تحت الناقص وأريد أن أطرح نفسي عليهم في هذه الساعة التي يُدعَى فيها لنا وللمسلمين على المنابر، فإما أن أبلغ الغرض وإما أن أمضي شهيداً إلى الجنة. فمن أحب أن يتبعني منكم فليتبعني، ومن أحب أن ينصرف فليمضِ مصاحباً عني، فما ها هنا سلطان يأمر ولا عسكر يُؤمر، فإنما أنا اليوم واحد منكم وغازٍ معكم".
وأوصى ألب أرسلان بتولية ابنه ملك شاه من بعده.
والتقى الجمعان ودارت بينهما حرب ضروس استمرت حتى زوال الشمس وكان السلطان ألب ارسلان في مقدمة الصفوف يقاتل بكل جسارة. وأثناء المعركة نفذ السلاجقة التكتيك التركي الشهير في الحروب وتظاهر بأنه ينسحب بجنوده بينما كان أمر مجموعات أخرى من الجنود بالاختباء في مواقع على مسافة قريبة من ميدان المعركة. ظن الجيش البيزنطي أن السلاجقة يتقهقرون من المعركة خوفاً منهم فأخذوا يتبعونهم لمسافة طويلة إلا أنهم لم يتمكنوا من اللحاق بهم نظراً لكثرة عتادهم وثقل دروعهم بينما كان الفرسان الأتراك أخف وزناً وحركة. وبعد فترة قصيرة بدأت مجوعات الجنود المختبئة تحيط بالجيش البيزنطي من الخلف بشكل يشبه الهلال بعد أن أمطروهم بوابل من السهام قتل منهم الآلاف. وهكذا أحاط السلاجقة بقلب جيش إمبراطورية روما الشرقية بقيادة رومانوس وعزلوه عن باقي الجيش. ثم غير الفرسان الذين كانوا يتظاهرون بالانسحاب اتجاههم وعادوا لمواجهة الجيش البيزنطي وعمل السلاجقة في جيش الإمبراطور رومانوس قتلاً وتشريداً.
وقبل أن تغرب الشمس كان السلاجقة قد حققوا نصراً مبيناً على جيش إمبراطورية روما الشرقية وقتلوا معظمهم وفر الباقي. كما أُسر الإمبراطور من قبل أحد الغلمان وسيق إلى خيمة السلطان ألب أرسلان.
وذكر ابن الأثير أن السلطان ألب أرسلان وبّخ الإمبراطور لرفضه الهدنة وتفضيله قتال المسلمين، إلا أنه عفا عنه مقابل أن يفدي الإمبراطور نفسه بألف ألف دينار وخمسمئة ألف دينار، وأن يرسل عساكر الروم إلى السلطان في أي وقت يطلبها، وأن يطلق كل أسير في بلاد الروم. وأنزل السلطان الإمبراطور في خيمة وأرسل إليه عشرة آلاف دينار يتجهز بها.
إلا أن أسرة دوكاس في القسطنطينية انقلبت ضد الإمبراطور وأطاحت به من العرش لما علمت بنبأ هزيمته وأسره.
بلغ نبأ انتصار المسلمين في ملاذكرد الخليفة العباسي ببغداد، كما انتشر في كل أرجاء العالم الإسلامي. وهنَّأ الخليفة السلطان ألب أرسلان ولقّبه، كما ذكر صدر الدين أبو الحسن علي في "أخبار الدولة السلجوقية"، بـ"السلطان الأعظم ملك العرب والعجم، وسلطان ديار المسلمين برهان أمير المؤمنين".
- تأثير انتصار ملاذكرد في التاريخ الإسلامي والأوروبي:
رغم أن معركة ملاذكرد لم تكُن فتحاً إسلامياً بالمعنى المعروف بل كانت بمثابة حرب دفاع عن النفس، إلا أنه كان لها تأثير كبير على المنطقة من الناحية الديموغرافية، إذ سمح السلطان ألب أرسلان للقادة ورؤساء القبائل الذين حاربوا معه بفتوحات في الأناضول، وأذن لكل من يفتح منطقة بأن يملكها ويحكمها.
بذلك بدأت فترة الإمارات التركية الأولى في الأناضول وأصبحت الأناضول منطقة ذات أغلبية تركية مسلمة بعد أن كانت موطناً للروم الأرثوذكس.
كذلك أدى استنزاف الإمبراطور معظم خزينة الإمبراطورية لتجهيز الجيش الضخم إلى إضعاف قوتها اقتصادياً، علاوة على هجرة عديد من السكان الروم الذين كانوا يشتغلون بالزراعة في مناطق شرق ووسط الأناضول التي سكنها الأتراك، إلى مناطق غربي الأناضول، وبالتالي حُرمت الإمبراطورية البيزنطية موارد زراعية هامة كانت تعتمد عليها.
كما مهّد انتصار ملاذكرد لتأسيس دولة سلاجقة الروم (سلاجقة الأناضول) ليتغير بعدها مصير وتاريخ منطقة الأناضول التي أصبحت وطناً دائماً للأتراك المسلمين. ومع سقوط دولة سلاجقة الأناضول ظهرت في الأناضول أيضاً الدولة العثمانية التي تحولت في ما بعد إلى واحدة من أكبر الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ.
ومن الآثار المهمة التي ترتبت على الانتصار في ملاذكرد وغيرت في تاريخ العالم الإسلامي والمسيحي على حدّ سواء، بداية الحملات الصليبية على العالم الإسلامي واستمرارها على مدار 170عاماً.
فعلى الرغم من الخلاف المذهبي بين البابا في روما والكنيسة الأرثوذكسية في القسطنطينية، فإن أوروبا كانت تنظر إلى روما الشرقية باعتبارها حارسة البوابة الشرقية لأوروبا وحائط الصدّ الأول ضد المسلمين. وبعد هزيمتها أمام الأتراك المسلمين وعدم تمكُّنها من حشد جيش قوي للتصدي لهم بعد ذلك، بدأ الغرب يفكّر في مد يد العون إليها في البداية ضد المسلمين، ثم بدأت أوروبا تفكّر في غزو المشرق الإسلامي بنفسها.
وفي عام 1095 عقد البابا أوروبان الثاني الطامح إلى أن يصير الزعيم الأوحد للعالم المسيحي، مؤتمراً موسعاً في مدينة كليرمون الفرنسية دعا فيه الملوك والأمراء وعامة الشعب إلى التوجه عسكريًّا إلى الشرق الإسلامي، بناءً على طلب المساعدة الذي قدمه له إمبراطور روما الشرقية ألكسيوس كومنين، وكلف البابا الراهب بطرس الناسك بتنفيذ جولات مكثفة في أوروبا لتحميس الناس.
وفي 1099 انطلقت الحملة الصليبية الأولى وأُسّسَت أول إمارات صليبية في العالم الإسلامي. وقد استمرت الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي نحو قرنين من الزمن.