على مر السنين، أثبتت كرة القدم أنها أقوى من السياسين لتوحيد العرب وتذكيرهم بانتمائهم لأمة واحدة، تسعد بأي نصر يحققه أي من منتخباتهم مهما اختلفت انتمائتهم السياسية، فقط يكفي أن المنتخب المنصر "عربي"، فالفرحة واحدة من المحيط إلى الخليج.
بدأت مشاعر العروبة تتفجر مع فوز المنتخب السعودي غير المتوقع على نظيره الأرجنتيني بقيادة أسطورته الكروية ليونيل ميسي، فمن غزة المحاصرة إلى اليمن الجريح مروراً بأي مدينة عربية فكأنك في مدن السعودية، تفرح بانتصار "الأخضر".
التاريخ يعيد نفسه:
تمكن الأبطال السعوديون من النهوض بعد خسارة حققها في الشوط الأول بهدف لصفر وثلاثة أهداف ملغاة، ليتمكن من تسجيل هدفين في الشوط الثاني، ويحول الهزيمة لنصر كبير كان كافياً لإسعاد الأمة العربية، خاصة وأن المنتخب الأرجنتيني الخاسر مرشح لنيل كأس العالم.
ومنذ 40 عاماً لم يحقق أي منتخب عربي ما حققه السعودي في كأس العالم، ففي عام 1982 فاز المنتخب الجزائري على نظيره الألماني بنفس النتيجة هدفين لواحد، وفعل بعض لاعبي الأخير وجماهيره مثلما فعل أنصار المنتخب الأرجنتيني، وحاولوا التقليل من منافسهم العربي، قبل أن تفجعهم صدمة انتصاره.
فنصر السعودية على الأرجنتين لم يكن مجرد فوز بكرة القدم، بل كانت جرعة أمل لكل عربي، تذكره أنه مهما حاصرته المشاكل والأزمات وتغولت عليه النكبات، فإنه قادر على الوقوف وتحقيق ما لم يكن يخطر على بال.
وعلى الطرف المقابل للخليج، حقق المنتخب المغربي نصراً عظيماً على نظيره البلجيكي المصنف الثاني عالميا بعد البرازيل، والمرشح الأول لتصدر مجموعته، بعدما سجل عليه هدفين نظيفين.
ويبدو أن الانتصار الذي حققه المنتخب المصري على بلجيكا وديا قبل تسعة أيام من مباراة المغرب، بهدفين مقابل هدف، ساهمت في كسر هيبة الشياطين الحمر، وكشفت نقاط ضعفهم.
لكن في المدرجات كان هناك نصر آخر للأخوة العربية، عندما حضرت جماهير جزائرية لتشجيع المنتخب المغربي، ورداً لجميل دعم الجماهير المغربية لمنتخب الجزائر في كأس إفريقيا بمصر في 2019، وهتفت بالشعار المشترك "خاوة خاوة.. ماشي عداوة"، أي "أننا إخوة ولسنا أعداء".
كما أن تعادل المنتخبان المغربي والتونسي في الجولة الأولى كان بطعم النصر، عندما اصطدما على التوالي بالمنتخب الكرواتي وصيف بطل كأس العالم في نسخة 2018 السابقة في روسيا، ونجمه مودريتش، والمنتخب الدنماركي بطل أوروبا في 1992.
وبحسب إعلام قطري، فإن مشجعي البلدان العربية الأربعة المشاركة في المونديال (السعودية وقطر والمغرب وتونس) اتفقوا على تأسيس رابطة مشجعين العرب، وإعداد أغان مشتركة لتشجيع الفرق الأربعة، في مبادرة هي الأولى من نوعها.
وهذا يعكس حجم الوعي والتضامن بين الجماهير العربية، رغم أنه ليس بالجديد وتجلى في أكثر من مناسبة كروية وبأشكال مختلفة، خاصة في كأس العرب في نسختها الأخيرة التي احتضنتها قطر العام الماضي.
تعاون بعد جفاء:
أصبح الخلاف السعودي القطري من الماضي، بحسب ما تبديه حرارة اللقاء بين أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، وولي عهد السعودية محمد بن سلمان، الذي حضر حفل افتتاح كأس العالم بالدوحة.
وارتدى ابن سلمان، وشاحاً عليه علم قطر، بينما حضر الأمير تميم مباراتي المنتخب السعودي لتشجيعه من المدرجات، التي امتلأت بالمشجعين القطريين، الذين ارتدو قمصان المنتخب الأخضر، وتوشحوا الأعلام السعودية.
ولم يقتصر الأمر على المجاملات بل وجّه ولي العهد السعودي، جميع الوزارات والهيئات في المملكة بتقديم أي دعم إضافي تحتاج إليه الجهات النظيرة في قطر، لمساندة جهودها في استضافة المونديال، وكلف وزير الرياضة بمتابعة ذلك ورفع التقارير له "أولًا بأول".
ويكمن أهمية الدعم السعودي في أن المملكة السعودية هي الدولة الوحيدة المتصلة برياً بقطر، ما يسهل من تنقل المشجعين من السعودية إلى قطر بأسرع وقت وبأقل التكاليف.
وتجلى أهمية هذا الدعم عندما قامت بعض المطارات الأوروبية بعرقلة توجه مشجعين مباشرة إلى قطر، فتوجه بعضهم إلى السعودية ومنها إلى قطر جواً أو براً.
فتنظيم كأس العالم بقطر، من شأنه أن يعود بالمنفعة على دول الخليج الأخرى سواء من خلال السياحة أو عبر زيادة التبادل التجاري مع قطر، خاصة في ظل تدفق أكثر من مليون مشجع أجنبي عليها، يمثلون أكثر من ثلث السكان.
وحتى بعد قطع العلاقات بين الجزائر والمغرب حبل الود لم ينقطع بين الشعبين، وتجلى ذلك بتأكيد مدرب المنتخب الجزائري لكرة القدم جمال بلماضي، أنه سيشجع المنتخبيْن المغربي والتونسي في مونديال قطر، بعد الدّعم الذي حظي به الجزائريون في كأس أمم إفريقيا "مصر 2019" من الشعبين المغربي والتونسي.
كما يحظى المنتخب القطري بدعم المشجعين العرب، خاصة وأنه يضم لاعبين من أصول جزائرية ومصرية وسودانية وعراقية، ما يجعله منتخبا لكل العرب بامتياز.
ـ فلسطين حاضرة بالمونديال
قضية العرب المركزية، كانت حاضرة في مونديال قطر حتى وإن لم يتأهل منتخب فلسطين إلى كأس العالم.
فالمشجعون التونسيون رفعوا علما ضخما لفلسطين، مكتوب عليه بالإنجليزية "الحرية لفلسطين"، وذلك عند الدقيقة 48 من عمر مباراة منتخبهم مع أستراليا في الجولة الثاني، للتذكير بنكبة عام 1948.
كما ارتدى العديد من المشجعين التونسيين والمغربيين قمصان تحمل علم فلسطين أو توشحوا الكوفية الفلسطينية، للتعبير عن دعمهم للقضية المركزية للعرب.
بينما أطلق قطريون حملة "هذا المكان داعم لمقاطعة الكيان" على أبواب المحلات لإظهار الرفض الشعبي للإسرائيليين.
فمونديال قطر فرصة أخرى تعبر من خلالها الشعوب العربية عن نبضها المشترك، وفرحها التلقائي بأي نصر، كما أن الهزيمة تؤلم الجميع، لكنها لا تكسر حماسهم وعزيمتهم، وتبقى فلسطين عنوانا لقضيتهم الرئيسية حتى وإن اختلفت حكوماتهم في التعامل معها.